فصل: تفسير الآيات رقم (21- 24)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏21- 24‏]‏

‏{‏أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏21‏)‏ تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ‏(‏22‏)‏ ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ ‏(‏23‏)‏ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ‏(‏24‏)‏‏}‏

ولما تقرر ما شرع من الدين مما وصى به جميع النبيين فبانت أصوله، واتضحت فروعه وفصوله، وظهرت غرائبه وأشرقت فرائده وآياته، وختم بالقانون الأعظم في أمر الدارين مما هو مشاهد ولا يقدر عليه غيره، فكان التقدير من غير خفاء‏:‏ هذا شرع الله الذي ارتضاه لعباده وحكم بأن الإقبال عليه غير ضار بطلب الرزق وقدر الأرزاق فلا قدرة لأحد أن يزيد في رزقه شيئاً، ولا أن ينقص منه شيئاً، أقبلوه‏؟‏ عادل ذلك بقوله تعالى مقرراً موبخاً منبهاً على ما هو الأصل في الضلال عن قوانينه المحررة وشرائعه الثابتة المقررة‏:‏ ‏{‏أم لهم‏}‏ أي لهؤلاء الذيب يروغون يميناً وشمالاً ‏{‏شركاء‏}‏ على زعمهم شاركوا الشارع الذي مضى بيان عزته وظهور جلاله وعظمته في أمره حتى ‏{‏شرعوا‏}‏ أي الشركاء الذين طرقوا ونهجوا ‏{‏لهم‏}‏ أي للكفار، ويجوز أن يكون المعنى‏:‏ شرع الكفار لشركائهم ‏{‏من الدين‏}‏ في العبادات والعادات التي تقرر في الأذهان أنه لا بد من الجزاء عليها لما جرت به عوائدهم عن محاسبة من تحت أيديهم وقدروا لهم من الأرزاق، وعدل عن أسلوب العظمة إلى الاسم الأعظم إشارة إلى ما فيه مع العظمة من الإكرام الذي من جملته الحلم المقتضي لعدم معاجلتهم بالأخذ فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ما لم يأذن به الله‏}‏ أي يمكن العباد منه بأمرهم به وتقريرهم عليه الملك الذي لا أمر لأحد معه، وقد محقت صفاته كل صفة وتضاءل عندها كل عظمة، فأقبلوا عليه دون غيره لكونه معتداً به، فإن كان كذلك فليسعدوا من أقبل على الدنيا التي هي محط أمرهم فلا يعرفون غيرها بأن يعطوه جميع مراده ويشقوا من أراد الآخرة وسعى لها سعيها، ونسب الشرع إلى الأوثان لأنها سببه كما كانت سبب الضلال في قوله سبحانه وتعالى حكاية عن إبراهيم خليله عليه الصلاة والسلام ‏{‏رب إنهن أضللن كثيراً من الناس‏}‏ ويضاف الشركاء إليهم تارة لأنهم متخذوها وتارة إلى الله تعالى لأنهم أشركوهم به، والعبارة تأتي بحسب المقام‏.‏

ولما علم قطعاً أن التقدير‏:‏ فلولا أن هذه الأفعال التي يفعلونها من غير إذن منه لا تنقص من ملكه سبحانه شيئاً، ولا تضر إلا فاعلها مع أنها بإرادته، فكانت لمنعهم عنها لم يصلوا إلى شيء منها، عطف عليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولولا كلمة الفصل‏}‏ التي سبق في الأزل أنها لا تكون ولما كان أمرهم هيناً، بني الفعل للمفعول، فقال‏:‏ ‏{‏لقُضي بينهم‏}‏ أي بين الذين امتثلوا أمره فالتزموا شرعه وبين الذين اتبعوا ما شرعوه لمن سموهم شركاء في أقرب وقت ولكنه قد سبق القضاء في أزل الأزل بمقادير الأشياء وتحديدها على وجوه الحكمة، فهي تجري على ما حد لها لا تقدم لشيء منها ولا تأخر ولا تبدل ولا تغير، وستنكشف لكم الأمور وتظهر مخبآت المقدور فلا يقع الفصل إلا في الآخرة كما سبق به القضاء بأن يكون للمقسطين نعيم مقيم‏.‏

ولما كانوا ينكرون أن يقع بهم عذاب، قال مؤكداً عطفاً على ما قدرته بما أرشد إليه السياق‏:‏ ‏{‏وإن الظالمين‏}‏ بشرع ما لم يأذن به الله من الشرك وغيره ‏{‏لهم عذاب أليم *‏}‏ أي مؤلم بليغ إيلامه‏.‏

ولما علم من هذا السياق كما ترى أنه لا بد من الفصل، وأن الفصل لا يكون إلا يوم القيامة، قال شارحاً للفصل بين الفريقين في ذلك اليوم مقبلاً على خطاب أعلى الخلق إشارة إلى أن هذا لا يفهمه حق الفهم ويوقن به حق الإيقان غيره صلى الله عليه وسلم، أو يكون المراد كل من يصح أن يخاطب إشارة إلى أن الأمر في الوضوح بحيث لا يختص به أحد دون أحد فقال‏:‏ ‏{‏ترى‏}‏ أي في ذلك اليوم لا يشك فيه عاقل لما له من الأدلة الفطرية الأولية والعقلية والنقلية ‏{‏الظالمين‏}‏ أي الواضعين الأشياء في غير مواضعها ‏{‏مشفقين‏}‏ أي خائفين أشد الخوف كما هو حال من يحاسبه من هو أعلى منه وهو مقصر‏.‏ ولما كان الكلام في الذين ظلمهم صفة راسخة لهم، كان من المعلوم أن كل عملهم عليهم، فلذلك عبر بفعل الكسب مجرداً فقال‏:‏ ‏{‏مما كسبوا‏}‏ أي عملوا معتقدين لأنه غاية ما ينفعهم ‏{‏وهو‏}‏ أي جزاءه ووباله الذي هو من جنسه حتى كأنه هو ‏{‏واقع بهم‏}‏ لا محالة من غير أن يزيدهم خوفهم إلا عذاباً في غمرات النيران، ذلك هو الخسران المبين، ذلك الذي ينذر به الذين ظلموا ‏{‏والذين آمنوا‏}‏ يصح أن يكون معطوفاً على مفعول ‏{‏ترى‏}‏ وأن يكون معطوفاً على جميع الجملة فيكون مبتدأ ‏{‏وعملوا الصالحات‏}‏ وهي التي أذن الله فيها غير خائفين مما كسبوا لأنهم مأذون لهم في فعله وهو مغفور لهم ما فرطوا فيه ‏{‏في روضات الجنات‏}‏ أي في الدنيا بما يلذذهم الله به من لذائد الأقوال والأعمال والمعارف والأحوال، وفي الآخرة حقيقة بلا زوال ‏{‏لهم ما يشاؤون‏}‏ أي دائماً أبداً كائن ذلك لكونه في غاية الحفظ والتربية والتنبيه على مثل هذا الحفظ لفت إلى صفة الإحسان، فقال‏:‏ ‏{‏عند ربهم‏}‏ أي الذي لم يوصلهم إلى هذا الثواب العظيم إلا حسن تربيته لهم، ولطف بره بهم على حسب ما رباهم‏.‏

ولما ذكر ما لهم من الجزاء عظمه فقال‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ أي الجزاء العظيم الرتبة الجليل القدر ‏{‏هو‏}‏ لا غيره ‏{‏الفضل‏}‏ أي الذي هو أهل لأن يكون فاضلاً عن كفاية صاحبه، ولو بالغ في الإنفاق ‏{‏الكبير *‏}‏ الذي ملأ جميع جهات الحاجة وصغر عنده كل ما ناله غيرهم من هذا الحطام، فالآية كما ترى من الاحتباك‏:‏ أثبت الإشفاق أولاً دليلاً على حذف الأمن ثانياً، والجنات ثانياً دليلاً على حذف النيران أولاً‏.‏

ولما ذكر محلهم ومآلهم فيه، بين دوامه زيادة في تعظيمه فقال مبتدئاً‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ أي الأمر العظيم من الجنة ونعيمها، وأخبر عن المبتدأ بقوله‏:‏ ‏{‏الذي يبشر‏}‏ أي مطلق بشارة عند من خفف وبشارة كثيرة عند من ثقل، وزاد البشارة بالاسم الأعظم، فقال لافتاً القول إليه‏:‏ ‏{‏الله‏}‏ أي الملك الأعظم والعائد وهو «به» محذوف تفخيماً للمبشر به لأن السياق لتعظيمه بالبشارة وبجعلها بأداة البعد وبالوصف بالذي، وذكر الاسم الأعظم والتعبير بلفظ العباد مع الإضافة إلى ضميره سبحانه فأفهم حذفه أن الفعل واقع عليه واصل بغير واسطة إليه، فصار كأنه مذكور وظاهر ومنظور فقال‏:‏ ‏{‏عباده‏}‏ ومن المعلوم أن كل أحد يعظم من اختصه لعبوديته‏.‏

ولما أشعر بالإضافة لصلاحهم، نص عليه بقوله‏:‏ ‏{‏الذين آمنوا‏}‏ أي صدقوا بالغيب ‏{‏وعملوا‏}‏ تحقيقاً لإيمانهم ‏{‏الصالحات‏}‏ وذلك الذي مضى قلبه الذي ينذر به الذين كفروا‏.‏ ولما كانت العادة جارية بأن البشير لا بد له من حياء وإن لم يسأل لأن بشارته قائمة مقام السؤال، قال كعب بن مالك رضي الله عنه‏:‏ لما أذن الله بتوبته علينا ركض نحوي راكض على فرس وسعى ساع على رجليه، فأوفى على جبل سلع ونادى‏:‏ يا كعب بن مالك أبشر، فقد تاب الله عليك، فكان الصوت أسرع من الفرس، فلما جاءني الذي سمعت صوته خلعت له ثوبي، فدفعتهما إليه، والله ما أملك يومئذ غيرهما، واستعرت ثوبين فلبستهما- إلى آخر حديثه، كان كأنه قيل‏:‏ ماذا تطلب على هذه البشارة، فأمر بالجواب بقوله‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ أي لمن توهم فيك ما جرت به عادة المبشرين‏:‏ ‏{‏لا أسئلكم‏}‏ أي الآن ولا في مستقبل الزمان ‏{‏عليه‏}‏ أي البلاغ بشارة ونذارة ‏{‏أجراً‏}‏ أي وإن قل ‏{‏إلا‏}‏ أي لكن أسألكم ‏{‏المودة‏}‏ أي المحبة العظيمة الواسعة‏.‏

ولما كانوا يثابرون على صلة الأرحام وإن بعدت والأنساب لذلك قال‏:‏ ‏{‏في القربى‏}‏ أي مظروفة فيها بحيث يكون القربى موضعاً للمودة وظرفاً لها، لا يخرج شيء من محبتكم عنها، فإنها بها يتم أمر الدين ويكمل الاجتماع فيه، فإنكم إذا وصلتم ما بيني وبينكم من الرحم لم تكذبوني بالباطل، ولم تردوا ما جئتكم به من سعادة الدارين، فأفلحتم كل الفلاح ودامت الألفة بيننا حتى نموت ثم ندخل الجنة فتستمر ألفتنا دائماً أبدا وقد شمل ذلك جميع القرابات ولم يكن بطن من قريش إلا وله صلى الله عليه وسلم فيهم قرابة، رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما وقال‏:‏ إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة، وروى البخاري عن سعيد بن جبير‏:‏ إلا أن تؤدوني في قرابتي أي تبروهم وتحسنوا إليهم، قال ابن كثير‏:‏ وقال السدي‏:‏ لما جيء بعلي بن الحسين أسيراً فأقيم على درج دمشق قام رجل من أهل الشام فقال‏:‏ الحمد لله الذي قتلكم واستأصلكم وقطع قرن الفتنة، فقال له علي‏:‏ أقرأت القرآن‏؟‏ قال‏:‏ نعم قال‏:‏ ما قرأت ‏{‏قلا لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى‏}‏ قال‏:‏ وإنكم لأنتم هم، قال‏:‏ نعم‏.‏

وعن العباس رضي الله عنه قال‏:‏ قلت‏:‏ يا رسول الله‏!‏ إن قريشاً إذا لقي بعضهم بعضاً لقوهم ببشر حسن وإذا لقونا لقونا بوجوه لا نعرفها، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم غضباَ شديداً وقال‏:‏ «والذي نفسي بيده لا يدخل قلب رجل الإيمان حتى يحبكم لله ورسوله»، وعنه أنه دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ إنا لنخرج فنرى قريشاً تحدث، فإذا رأونا سكتوا، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم ودر عرق بين عينيه، ثم قال‏:‏ «والله لا يدخل قلب امرئ مسلم إيمان حتى يحبكم لله ولقرابتي» وعبر في المنقطع بأداة الاستثناء إعراقاً في النفي بالإعلام بأنه لا يستثني أجر أصلاً إلا هذه المودة إن قدر أحد أنها تكون أجراً، ويجوز أن تكون «إلا» بمعنى «غير» فيكون من باب‏:‏

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم *** بهن فلول من قراع الكتائب

فمن كان بينه وبين أحد من المسلمين قرابة فهو مسؤول أن يراقب الله في قرابته تلك، فيصل صاحبها بكل ما تصل قدرته إليه من جميع ما أمره الله به من ثواب أو عقاب، فكيف بقرابة النبي صلى الله عليه وسلم فإنه قد قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه الطبراني وأبو نعيم في الحلية عن أبي ذر رضي الله عنه‏:‏ «مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح عليه الصلاة والسلام، من ركب فيها نجا، ومن تخلف عنها هلك» وقال فيما رواه في الفردوس عن ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ «أصحابي بمنزلة النجوم في السماء بأيهم اقتديتم اهتديتم» قال الأصبهاني‏:‏ ونحن الآن في بحر التكليف محتاجون إلى السفينة الصحيحة والنجوم الزارهة، فالسفينة حب الآل، والنجوم حب الصحب، فنرجو من الله السلامة والسعادة بحبهم في الدنيا والآخرة- والله أعلم‏.‏

ولما كان التقدير حتماً‏:‏ فمن يقترف سيئة فعليه وزرها، ولكنه طوى لأن المقام للبشارة كما يدل عليه ختم الآية مع سابقه، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏ومن يقترف‏}‏ أي يكسب ويخالط ويعمل بجد واجتهاد وتعمد وعلاج ‏{‏حسنة‏}‏ أي ولو صغرت، وصرف القول إلى مظهر العظمة إشارة إلى أنه لا يزيد في الإحسان إلا العظماء، وإلى أن الإحسان قد يكون سبباً لعظمة المحسن فقال‏:‏ ‏{‏نزد‏}‏ على عظمتنا ‏{‏له فيها حسناً‏}‏ بما لا يدخل تحت الوهم، ومن الزيادة أن يكون له مثل أجر من اقتدي به فيها إلى يوم القيامة لا ينقص من أجورهم شيئاً، وهذا من أجر الرسل على إبلاغه إلى الأمم، فهم أغنياء عن طلب غيره- هذا إن اهتدوا به، وإن دعاهم فلم يهتدوا كان له مثل أجورهم لو اهتدوا، فإن عدم اهتدائهم ليس من تقصيره، بل قدر الله وما شاء فعل‏.‏

ولما كانوا يقولون‏:‏ إنا قد ارتكبنا من المساوئ ما لم ينفع معه شيء، قال نافياً لذلك على سبيل التأكيد معللاً مبيناً بصرف القول إلى الاسم الأعظم أن مثل ذلك لا يقدر عليه ملك غيره على الإطلاق‏:‏ ‏{‏إن الله‏}‏ أي الذي لا يتعاظمه شيء ‏{‏غفور‏}‏ لكل ذنب تاب منه صاحبه أو كان يقبل الغفران وإن لم يتب منه إن شاء، فلا يصدن أحداً سيئة عملها عن الإقبال على الحسنة‏.‏

ولما كان إثبات الحسنة فضلاً عن الزياة عليها لا يصح إلا مع الغفران، ولا يمكن أن يكون مع المناقشة، فذكر ذلك الوصف الذي هو أساس الزيادة، أفادها- أي الزيادة- بقوله‏:‏ ‏{‏شكور *‏}‏ فهو يجزي بالحسنة أضعافها ويترك سائر حقوقه‏.‏ ولما أثبت أنه أنزل الكتاب بالحق، ودل على ذلك إلى أن ختم بنفي الغرض في البلاغ فحصل القطع بمضمون الخبر، كان كأنه قيل إنكاراً عليهم وتوبيخاً لهم‏:‏ هل عملوا بما نبهناهم عليه مما يدعون أنهم عريقون فيه من صلة الرحم والإقبال على معالي الأخلاق باجتناب السئيات وارتكاب الحسنات، والبعد عن الكذب والمكابرة والبهتان، فاعتقدوا أنه حق وأنه وحي من عند الله بما قام على ذلك من البرهان‏:‏ ‏{‏أم يقولون‏}‏ عناداً‏:‏ ‏{‏افترى‏}‏ أي تعمد أن يقطع، وقدم ذكر الملك الأعظم تنبيهاً على أنه لا أفظع من الكذب على ملك الملوك مع فهم المفعول به من لفظ الافتراء فقال‏:‏ ‏{‏على الله‏}‏ الذي أحاط بصفات الكمال، فله العلم الشامل بمن يتقول عليه والقدرة التامة على عقابه ‏{‏كذباً‏}‏ حين زعم أن هذا القرآن من عنده وأنه أرسله لهذا الدين‏.‏

ولما كان التقدير قطعاً‏:‏ إنهم ليقولون ذلك وكان قولهم له قولاً معلوم البطلان لأنه تحداهم بشيء من مثله في زعمهم أن له مثلاً ليعلم صحة قولهم فلم يأتوا بشيء وهم وإن كانوا قد يدعون أنه يمنعهم من ذلك أنهم لا يستجيزون الكذب مبطلون لا يمتري عاقل في بطلان ذلك منهم أيضاً لأنهم لم يكلب منهم أن ينسوا ما يأتون به إلى الله على أنه لو طلب منهم ذلك لما كان عذراً، لأنه لا يتوقف أحد في أن الضرورات تبيح المحذورات، وأنه يرتكب أخف الضررين لدفع أثقلهما، فالإتيان بكلام يسر يسكن به فتن طوال وتنقطع به شرور كبار في غاية الحسن لأن الخطب فيه سهل، والأمر يسير، فكان ذلك وهم يرتكبون أكبر منه من قطع الأرحام وتفريق الكلمة لقتل النفوس وتخريب الديار وإتلاف الأموال دليلاً قاطعاً على أنهم إنما يتركونه عجزاً، تسبب عن قولهم هذا وهو نسبتهم له إلى تعمد الكذب أن قال تعالى رداً عليهم ببيان كذبهم فيما قالوا ببيان ما له صلى الله عليه وسلم من نور القلب اللازم عن استقامة القول‏:‏ ‏{‏فإن‏}‏ وأظهر الجلالة ولم يضمر تعظيماً للأمر بأن الختم لا يقدر عليه إلا المتصف بجميع صفات الكمال على الإطلاق من غير تقيد بقيد أصلاً فقال‏:‏ ‏{‏يشأ الله‏}‏ أي الذي له الإحاطة بالكمال ‏{‏يختم‏}‏ وجرى على الأسلوب السابق في الخطاب لأعظم أولي الألباب فقال معبراً بأداة الاستعلاء‏:‏ ‏{‏على قلبك‏}‏ فيمنعه من قبول روح هذا الوحي كما ختم على قلوب أعدائك من قبول ذلك، فتستوي حينئذ معهم في عدم القدرة على الإتيان بشيء منه وتصير لو قلت وقد أعاذك الله عما يقولون مما يصح نسبته إلى الباطل لم تقله إلا ومعه الأدلة قائمة على بطلانه كما أنهم هم كذلك لا يزالون مفضوحين بما على أقوالهم من الأدلة قائمة على بطلانها، وكان الأصل في الكلام‏:‏ أم يقولون ذلك وأنهم لكاذبون فيه بسبب أن الله قد شرح صدرك وأنار قلبك فلا تقول فولاً إلا كانت الأدلة قائمة على صدقه، ولكنه ساق الكلام هكذا لأنه مع كونه أنصف دال على تعليق بالافتراء على ختم القلوب، وذلك دال قطعاً على أنهم هم الكاذبون لما على قلوبهم من الختم الموجب لأنها تقول ما الأدلة قائمة على كذبه‏.‏

ولما كان التقدير كما دل عليه السياق‏:‏ ولكنه لم يشأ ذلك، بل شاء جعله قابلاً لروح الوحي واعياً لفنون العلم فهو يقذف بأنواع المعارف، ويهتف بتلقي أعاجيب اللطائف، ويثبت الله ذلك كله من غير مانع ولا صارف، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏ويمحُ الله‏}‏ أي الذي له جميع صفات الكمال ‏{‏الباطل‏}‏ وهو قولهم «افترى» وكل كذب فلا يدع له أثراً، وهنالك يظهر خسران الجاحد وينقطع لسان الألد المعاند، ولم يذكر أن آلة المحو الكلمات وغيرها استهانة به بالإشارة إلى أنه تارة يمحوه بنفسه بلا سبب وتارة بأضعف الأسباب وتارة بأعلى منه، وحذفت واوه في الخط في جميع المصاحف مع أنه استئناف غير داخل في الجواب لأنه تعالى يمحو الباطل مطلقاً إيماء إلى أنه سبحانه يمحق رفعه وعلوه وغلبته التي دلت عليها الواو مطابقة بين خطه ولفظه، ومعناه تأكيداً للبشارة يمحوه محواً لا يدع له عيناً ولا أثراً لمن ثبت لصولته‏:‏ وصبر كما أمر لحولته، اعتماداً على صادق وعد الله إيماناً بالغيب وثقة بالرسل عليهم الصلاة والسلام، وفي الحذف أيضاً تشبيه له بفعل الأمر إيماء إلى أن إيقاع هذا المحو أمر لا بد من كونه على أتم الوجوه وأحكمها وأعلاها وأتقنها كما يكون المأمور به من الملك المطاع، وأما الحق فإنه ثابت شديد مضاعف فلذا قال‏:‏ ‏{‏ويحق‏}‏ أي يثبت على وجه لا يمكن زواله ‏{‏الحق‏}‏ أي كل من شأنه الثبات لأنه أذن فيه وأقره، وعظم الحق وإحقاقه بذكر آلة الفعل فقال‏:‏ ‏{‏بكلماته‏}‏ أي التي

‏{‏لو كان البحر مداداً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 109‏]‏ الآية التي يقولون إن ما أتاهم من العبارة عنها افتراء للكذب، والحاصل أنه سبحانه أثبت صفاء لبه ونورانية قلبه وسداد قوله وصاب أمره، وظلام قلوبهم وبطلان أقوالهم إثباتاً مقروناً بدليله أما لأهل البصائر فبعجزهم عن معارضته، وأما للأغبياء فإبثات قوله ومحو قولهم‏.‏

ولما كانوا يعلمون أنه على حق وهم على باطل، وكان من أحاط علمه بشيء قدر على ما يريده من ذلك الشيء، بين ذلك بقوله معللاً على وجه التأكيد لأن عملهم عمل من يظن أن الله لا يعلم مكرهم‏:‏ ‏{‏إنه عليم‏}‏ أي بالغ ‏{‏بذات الصدور *‏}‏ أي ما هو فيها مما يعلمه صاحبه ومما لا يعلمه فيبطل باطله ويثبت حقه وإن كره الخلائق ذلك ‏{‏ولتعلمن نبأه بعد حين‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 88‏]‏ ولقد صدق الله فأثبت ببركة هذا القرآن كل ما كان يقوله صلى الله عليه وسلم وأبطل بسيف هذا البرهان كل ما كانوا يخالفونه فيه، ومن أصدق من الله قيلاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏25- 30‏]‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ‏(‏25‏)‏ وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ‏(‏26‏)‏ وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ ‏(‏27‏)‏ وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ ‏(‏28‏)‏ وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ ‏(‏29‏)‏ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ‏(‏30‏)‏‏}‏

ولما أخبر بضلالهم وجزم بإبطال أعمالهم، رغبهم رحمة منه لهم في التوبة التي هي من الحق الذي يحقه ولو على أقل وجوهها بأن يقولوها بألسنتهم ليبلغه ذلك عنهم، فإن قول اللسان يوشك أن يدخل إلى لا غيره أزلاً وأبداً ‏{‏الذي يقبل التوبة‏}‏ كلما شاء بالغة له أو متجاوزاً ‏{‏عن عباده‏}‏ الذين خالصون لطاعته، سئل أبو الحسن البوشنجي عن التوبة فقال‏:‏ إذا ذكرت الذنب فلا تجد له حلاوة في قلبك‏.‏

ولما كان القبول قد يكون في المستقبل مع الأخذ بما مضى قال‏:‏ ‏{‏ويعفو عن السيئات‏}‏ أي التي كانت التوبة عنها صغيرة أو كبيرة وعن غيرها فلا يؤاخذ بها أن شاء لأن التوبة تجب ما قبلها كما أن الإسلام الذي هو توبة خاصة يجب ما كان قبله‏.‏

ولما كانت تعدية القبول ب «عن» مفهمة لبلوغه ذلك بواسطة، فكان ربما اشعر بنقص في العلم، أخبر بما يوجب التنزيه عن ذلك ترغيباً وترهيباً بقوله‏:‏ ‏{‏ويعلم‏}‏ أي والحال أنه يعلم كل وقت ‏{‏ما تفعلون‏}‏ أي كل ما يتجدد لهم عمله سواء كان عن علم أو داعية شهوة وطبع سيئة كان أو حسنة وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم ورويس عن يعقوب بالخطاب لافتاً للقول عن غيب العباد لأنه أبلغ في التخويف وقرأ الباقون بالعيب نسقاً على العباد وهو، أعم وأوضح في المراد فعفوه مع العلم عن سعة الحلم‏.‏

ولما رغب بالعفو زاد الإكرام فقال‏:‏ ‏{‏ويستجيب‏}‏ أي يوجد بغاية العناية والطلب إجابة ‏{‏الذين آمنوا‏}‏ أي دعاء الذي أقروا بالإيمان في كل ما دعوه به أو شفعوا عنده فيه لأنه لولا إرادته لهم الإكرام بالإيمان ما آمنوا، وعدى الفعل بنفسه تنبيهاً على زيادة بره لهم ووصلتهم به ‏{‏وعملوا‏}‏ تصديقاً لدعواهم الإيمان ‏{‏الصالحات‏}‏ فيثيبهم النعيم المقيم ‏{‏ويزيدهم‏}‏ أي مع ما دعوا له ما لم يدعوا به ولم يخطر على قلوبهم ولما كان هذا وإن كان الأول فضلاً منه أبين في الفضل قال تعالى‏:‏ ‏{‏من فضله‏}‏ على أنه يجوز تعليقه بالفعلين‏.‏

ولما رغب الذين طالت مقاطعتهم في المواصلة بذكر إكرامهم إذا أقبلوا عليه، رهب الذين استمروا على المقاطعة فقال‏:‏ ‏{‏والكافرون‏}‏ أي العريقون في هذا الوصف، الذين منعتهم عراقتهم من التوبة والإيمان ‏{‏لهم عذاب شديد *‏}‏ ولا يجيب دعاءهم، فغيرهم من العصاة لهم عذاب غير لازم التقيد بشديد، والآية من الاحتباك‏:‏ ذكر الاستجابة أولاً دليلاً على ضدها ثانياً والعذاب ثانياً دليلاً على ضده أولاً، وسره أنه ذكر الحامل على الطاعة والصاد عن المعصية‏.‏

ولما كان المتبادر من الاستجابة إيجاد كل ما سألوه في هذه الدنيا على ما أرادوه وكان الموجود غير ذلك بل كان أكثر أهل الله مضيقاً عليهم، وكانت الإجابة إلى كل ما يسأل بأن يكون في هذه الدار يؤدي في الغالب إلى البطر المؤدي إلى الشقاء فيؤدي ذلك إلى عكس المراد، قال على سبيل الاعتذار لعباده وهو الملك الأعظم مبيناً أن استجابته تارة تكون كما ورد به الحديث لما سألوه، وتارة تكون بدفع مثله من البلاء وتارة تكون بتأخيره إلى الدار الآخرة ‏{‏ولو‏}‏ أي هو يقبل ويستجيب والحال أنه لو ‏{‏بسط‏}‏ ولما كان هذا المقام عظيماً لاحتياجه إلى الإحاطة بأخلاقهم وأوصافهم وما يصلحهم ويفسدهم والقدرة على كل بذل ومنع، عبر بالاسم الأعظم فقال‏:‏ ‏{‏الله‏}‏ أي الملك الأعظم الجامع لجميع صفات الكمال تنبيهاً على عظمة هذا المقام‏:‏ ‏{‏الرزق‏}‏ لهم- هكذا كان الأصل، لكنه كره أن يظن خصوصيته ذلك بالتائبين فقيل‏:‏ ‏{‏لعباده‏}‏ أي كلهم التائب منهم وغيره بأن أعطاهم فوق حاجتهم ‏{‏لبغوا في الأرض‏}‏ أي لصاروا يريدون كل ما يشتهونه، فإن لم يفعل سعوا في إنفاذه كالملوك بما لهم من المكنة بكل طريق يوصلهم إليه فيكثر القتل والسلب والنهب والضرب ونحو ذلك من أنواع الفساد، وقد تقدم في النحل من الكلام على البغي ما يتقن به علم هذا المكان‏.‏

ولما كان معنى الكلام أنه سبحانه لا يبسط لهم ذلك بحسب ما يريدونه، بنى عليه قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏ولكن ينزِّل‏}‏ أي لعباده من الرزق ‏{‏بقدر‏}‏ أي بتقدير لهم جملة ولكل واحد منهم لا يزيد عن تقدير دره ولا ينقصها ‏{‏ما يشاء‏}‏ من الماء الذي هو أصل الرزق والبركات التي يدبر بها عباده كما اقتضته حكمته التي بنى عليها أحوال هذه الدرر‏.‏

ولما كان أكثر الناس يقول في نفسه‏:‏ لو بسط إليّ الرزق لعملت الخير، وتجنبت الشر، وأصلحت غاية الإصلاح، قال معللاً ما أخبر به في أسلوب التأكيد‏:‏ ‏{‏إنه‏}‏ وكان الأصل‏:‏ بهم، ولكنه قال‏:‏ ‏{‏بعباده‏}‏ لئلا يظن أن الأمر خاص بمن وسع عليهم أو ضيق عليهم‏:‏ ‏{‏خبير بصير *‏}‏ يعلم جميع ظواهر أمورهم وحركاتهم وانتقالاتهم وكلامهم وبواطنها فيقيم كل واحد فيما يصلح له من فساد وصلاح وبغي وعدل، ويهيئ لكل شيء من ذلك أسبابه‏.‏

ولما ذكر إنزال الرزق على هذ المنوال، وكان من الناس ممن خذله الإضلال من يقول‏:‏ إن ما الناس فيه من المطر والنبات وإخراج الأقوات إنما هو عادة الدهر بين أنه سبحانه هو الفاعل لذلك بقدرته واختياره بما هو كالشمس من أنه قد يحبس المطر عن إبانه وإعادته في وقته وأوانه، حتى ييأس الناس منه ثم ينزله إن شاء، فقال معبراً بالضمير الذي هو غيب لأجل أن إنزال الغيث من مفاتيح الغيب‏:‏ ‏{‏وهو‏}‏ أي لا غيره قادر على ذلك فإنه هو ‏{‏الذي ينزل الغيث‏}‏ أي المطر الذي يغاث به الناس أي يجابون إلى ما سألوا ويغاثون ظاهراً كما ينزل الوحي الذي يغاثون به ظاهراً وباطناً‏.‏

ولما كان الإنزال لا يستغرق زمان القنوط، أدخل الجار فقال‏:‏ ‏{‏من بعد ما قنطوا‏}‏ أي يئسوا من إنزاله وعملوا انه لا يقدر على إنزاله غيره، ولا يقصد فيه سواه، ليكون ذلك أدعى لهم إلى الشكر وينشره- هكذا كان الأصل ولكنه لما بين أنه غيث قال بياناً لأنه رحمةً، وتعميماً لأثره من النبات وغيره‏:‏ ‏{‏وينشر رحمته‏}‏ أي على السهل والجبل فينزل من السحاب المحمول بالريح من الماء ما يملأ الأرض بحيث لو اجتمع عليه الخلائق ما أطاقوا حمله، فتصبح الأرض ما بين غدران وأنهار، ونبات ونجم وأشجار، وحب وثمار، وغير ذلك من المنافع الصغار والكبار، فلله ما أعلى هذه القدرة الباهرة والآية الظاهرة، فيخرج من الأرض التي هي من صلابتها تعجز عنها المعاول نجماً هو في لينه ألين من الحرير، وفي لطافته ألطف من النسيم، ومن سوق الأشجار التي تنثني فيها المناقير أغصاناً ألطف من ألسنة العصافير، فما أجلف من ينكر إخراجه الموتى من القبور، أو يحيد من ذلك بنوع من الغرور‏.‏

ولما أنكر عليهم فيما مضى اتخاذ ولي من دونه بقوله تعالى ‏{‏أم اتخذوا من دونه أولياء‏}‏ وأثبت أنه هو الولي، وتعرف إليهم بآثاره التي حوت أفأنين أنواره، وكانت كلها في غاية الكمال موجبة للحمد المتواتر المنوال، قال‏:‏ ‏{‏وهو‏}‏ أي وحده لا غيره ‏{‏الولي‏}‏ أي الذي لا أحد أقرب منه إلى عباده في شيء من الأشياء ‏{‏الحميد *‏}‏ أي الذي استحق مجامع الحمد مع أنه يحمد من يطيعه فيزيده من فضله ويصل حبله دائماً بحبله‏.‏

ولما كان ما مضى من بسط الرزق وقبضه، وإنزال الغيث وحبسه‏.‏ من الآيات العظمية، عمم بذكر ما ذلك بعض منه، وهو دال على جميع ما ختم به الأية السالفة من الحمد الذي هو الاتصاف بجميع صفات الكمال فقال عاطفاً على ما تقديره‏:‏ فذلك من آيات الله الدالة على قدرته واختياره وإنه هو الذي يحيي هذا الوجود بالمعاني من روح الوحي وغيره تارة والأعيان من الماء وغيره أخرى‏:‏ ‏{‏ومن آياته‏}‏ العظيمة على ذلك وعلى استحقاقه لجميع صفات الكمال ‏{‏خلق السماوات‏}‏ التي تعلمون أنها متعددة بما ترون من أمور الكواكب ‏{‏والأرض‏}‏ أي جنسها على ما هما عليه من الهيئات وما اشتملا عليه من المنافع والخيرات ‏{‏وما بث‏}‏ أي فرق بالأبدان والقلوب على هذا المنوال الغريب من الحس والحركة بالاختيار مع التفاوت في الأشكال، والقدور والهيئات والأخلاق وغير ذلك من النقص والكمال‏.‏

ولما كانت الأرض بناء والسماء سقفه، فمن كان في أحدهما صح نسبته إلى أنه في كل منهما‏:‏ الأسفل بالإقلال والأعلى بالإظلال قال تعالى‏:‏ ‏{‏فيهما‏}‏ أي السماوات والأرض ولا سيما وقد جعل لكل منهما تسبباً في ذلك بما أودعهما من الجواهر وأنشأ عنهما من العناصر‏.‏

ولما كانت الحياة التي هي سبب الانتشار والدب ربنا أورثت صاحبها كبراً وغلظاً في نفسه نظن أنه تام القدرة، أنث تحقيراً لقدرته وتوهية لشأنه ورتبته فقلل ‏{‏من دابة‏}‏ أي شيء فيه أهلية الدبيب بالحياة من الإنس والجن والملائكة وسائر الحيوانات على اختلاف أصنافهم وألوانهم وأشكالهم ولغاتهم وطباعهم وأجناسهم وأنواعهم أقطارهم ونواحيهم وأصقاعهم ومن نظر إلى صنائعه سبحانه تيقن وجوده وقدرته واختياره، ثم إذا أمعن في النظر وتابع التدبر في الفكر وصل إلى معرفة الصانع بأسمائه وصفاته وما ينبغي له ويستحيل عليه فيحمده بمحامدة التي لا نهاية لها ويسبحه بسبحانه ثم إن أمعن سما إلى الوقوف على حكمة ما جاءت به الرسل ونزلت به الكتب‏.‏

ولما كنا عالمين بأن من أوجد أشياء على ضم أشتاتهم متى شاء مع نقص التصرف والعجز في التقلب كنا جديرين بالعلم القطعي بمضمون قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهو‏}‏ أي بما له من صفات العظمة التي يعلم الظاهر معها، وما غاب عنا أكبر ‏{‏على جمعهم‏}‏ أي هذه الدواب من ذوي العقول وغيرهم بعد تفرقهم بالقلوب والأبدان بالموت وغيره من الحظوظ والأهواء وغير ذلك‏.‏

ولما كان الجمع لا بد منه، عبر بأداة التحقق فقال معلقا بجمع‏:‏ ‏{‏إذا‏}‏ وحقق النظر إلى البعث فعبر بالمضارع فقال‏:‏ ‏{‏يشاء قدير *‏}‏ أي بالغ القدرة كما كان بالغ القدرة عند الإيجاد من العدم بجمعهم في صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفذهم البصر، ولما ذكرهم سبحانه بنعمه، وكان السياق لتعداد ما ناسب مقصود هذه السورة منها، كان الفكر جديراً بأن يخطر له ما في الدنيا من الأمراض والأنكاد والهموم والفهوم بالإشقاء فيها والإسعاد، قال شافياً لعي سؤاله عن ذلك ببيان ما فيه من نعمته على وجه دال على تمام قدرته، عاطفاً على ما هو مضمون ما مضى بما تقديره‏:‏ فهو الذي خلقكم ورزقكم وهو المتصرف فيكم بعد بثكم بالعافية والبلاء تمام التصرف، فلا نعمة عندكم ولا نقمة إلا منه، ولا يقدر أصحابها على ردها ولا رد شيء مها فهو وليكم وحده ‏{‏وما أصابكم‏}‏ واجههم بالخطاب زيادة في تقريب الطائع وتبكيت العاصي، وعم بقوله‏:‏ ‏{‏من مصيبة‏}‏ وأخبر عن المبتدأ بقوله‏:‏ ‏{‏فبما‏}‏ أي كائن بسبب الذي- هذا على قراءة نافع وابن عامر، وإثبات الفاء في الباقين زيادة في إيضاح السببية فقرأوا «فبما» لتضمن المبتدأ الشرط أي فهو بالذي‏.‏

ولما كانت النفوس مطبوعة على النقائض، فهي لا تنفك عنها إلا بمعونة من الله شديدة، وكان عملها كله أو جله عليها، فعبر بالفعل المجرد إشارة إلى ذلك فقال‏:‏ ‏{‏كسبت‏}‏‏.‏

ولما كان العمل غالباً باليد قال‏:‏ ‏{‏أيديكم‏}‏ أي من الذنوب، فكل نكد لاحق إنما هو بسبب ذنب سابق أقله التقصير، روى ابن ماجة في سننه وابن حبان في صحيحه- والحاكم واللفظ له- وقال‏:‏ صحيح الإسناد- عن ثوبان رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله‏:‏

«لا يرد القدر إلا الدعاء ولا يزيد في العمر إلا البر، وإن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه» فالآية داعية لكل أحد إلى المبادرة عند وقوع المصيبة إلى محاسبة النفس ليعرف من أين جاء تقصيره، فيبادر إلى التوبة عنه والإقبال على الله لينقذ نفسه من الهلكة، وفائدة ذلك وإن كان الكل بخلقه وإرادته إظهار الخضوع والتذلل واستشعار الحاجة والافتقار إلى الواحد القهار، ولولا ورود الشريعة لم يوجد سبيل إلى الهدى، ولا إلى هذه الكمالات البديعية، ومثل هذه التنبيهات ليستخرج من العبد ما أودع في طبيعته وركز في غريزته كغرس وزرع سبق إليه ماء وشمس لاستخراج ما أودع في طبيعته من المعلومات الإلهية والحكم العلية‏.‏

ولما ذكر عدله، أتبعه فضله فقال‏:‏ ‏{‏ويعفو عن كثير *‏}‏ ولولا عفوه وتجاوزه لما ترك على ظهرها من دابة ويدخل في هذا ما يصيب الصالحين لإنالة درجات وفضائل وخصوصيات لا يصلون إليها إلا بها لأن اعمالهم لم تبلغها فهي خير واصل من الله لهم، وقيل لأبي سليمان الداراني‏:‏ ما بال العقلاء أزالوا اللوم عمن أساء إليهم‏؟‏ قال‏:‏ لأنهم علموا أن الله ابتلاهم بذنوبهم- وقرأ هذه الآية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏31- 35‏]‏

‏{‏وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ‏(‏31‏)‏ وَمِنْ آَيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ ‏(‏32‏)‏ إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ‏(‏33‏)‏ أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ ‏(‏34‏)‏ وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ ‏(‏35‏)‏‏}‏

ولما كان من يعاقب بما دون الموت ربما ظن أنه عاجز قال‏:‏ ‏{‏وما أنتم بمعجزين‏}‏ لوأريد محقكم بالكلية ولا في شيء أراد سبحانه منكم كائناً ما كان‏.‏ ولما كان من ثبت قدرته على محل العلو بخلقه وما أودعه من المصنوعات أجدر بالقدرة على ما دونه، أشار إلى ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏في الأرض‏}‏ ولما كان الكلام في العقوبة في الدنيا قبل الموت، ولم يكن أحد يدعي فيها التوصل إلى السماء، لم يدع داع إلى ذكرها بخلاف ما مضى في العنكبوت‏.‏ ولما نفى امتناعهم بأنفسهم، وكان له سبحانه من العلو ما تقصر عنه العقول، فكان كل شيء دونه، فكان قادراً على كل شيء قال‏:‏ ‏{‏وما لكم‏}‏ أي عند الاجتماع فكيف عند الانفراد‏.‏

ولما كانت الرتب في غاية السفول عن رتبته والتضاؤل دون حضرته، أثبت الجار منبهاً على ذلك فقال‏:‏ ‏{‏من دون الله‏}‏ أي المحيط بكل شيء عظمة وكبراً وعزة، وعم بقوله‏:‏ ‏{‏من ولي‏}‏ أي يكون متولياً لشيء من أموركم بالاستقلال ‏{‏ولا نصير *‏}‏ يدفع عنكم شيئاً يريده سبحانه بكم‏.‏

ولما دل سبحانه على تمام قدرته واختياره وختم بنفي الشريك اللازم للوحدانية التي اعتقادها أساس الأعمال الصالحة، دل عليها بأعظم الآيات عندهم وأوضحها في أنفسهم وأقربها إلى إفهامهم لما لهم من الإخلاص عندها فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ومن آياته‏}‏ أي الدالة على تمام قدرته واختياره ووحدانيته وعظيم سلطانه تسخيره وتذليله لسير الفلك فيه حاملة ما لا يحمله غيرها، وهو معنى قوله‏:‏ ‏{‏الجوار‏}‏ أي من السفن، وهي من الصفات التي جرت مجرى الأعلام، ودل على الموصوف ما بعده فلذلك حذف لأن القاعدة أن الصفة إذا لم تخص الموصوف امتنع حذفه فنقول‏:‏ مررت بمهندس، ولا تقول‏:‏ مررت بماشٍ- إلا بقرينة كما هنا‏.‏

ولما كانت ثقيلة في أنفسها، وكان يوضع فيها من الأحمال ما يثقل الجبال، وكان كل ثقيل ليس له من ذاته إلا الغوص في الماء، كانت كأنها فيه لا عليه لأنها جديرة بالغرق فقال تعالى محذراً من سطواته متعرفاً بجليل نعمته معرفاً بحقيقة الجواري‏:‏ ‏{‏في البحر كالأعلام *‏}‏ أي الجبال الشاهقة بما لها من العلو في نفسها عن الماء ثم بما يوصلها وما فيه من الشراع عليها من الارتفاع، وقال الخليل‏:‏ كل شيء مرتفع عند العرب فهو علم‏.‏

ولما كان كأنه قيل‏:‏ وما تلك الآيات‏؟‏ ذكر ما يخوفهم منها ويعرفهم أن جميع ما أباحهم إياه من شؤونها إنما هو بقدرته واختياره فقال‏:‏ ‏{‏إن يشاء‏}‏ أي الله الذي حملكم فيها على ظهر الماء آية بينة سقط اعتبارها عندكم لشدة الفكر لها ‏{‏يسكن الريح‏}‏ التي يسيرها وانتم مقرّون أن أمرها ليس إلا بيده ‏{‏فيظللن‏}‏ أي فتسبب عن ذلك أنهن يظللن أن يقمن ليلاً كان أو نهاراً، ولعله عبر به مع أن أصله الإقامة نهاراً لأن النهار موضع الاقتدار على الأشياء وهو المنتظر عند كل متعسر للسعي في إزالة عسره وتيسر أمره ‏{‏رواكد‏}‏ أي ثوابت مستقرات من غير سير ‏{‏على ظهره‏}‏ ثباتاً ظاهراً بما دل عليه إثبات اللامين وفتح لامه الأولى للكل‏.‏

ولما كان ذلك موضع إخلاصهم الدعوة لله والإعراض عن الشركاء فإنهم كانوا يقولون في مثل هذا الحال‏:‏ اخلصوا فإن آلهتكم- أي من الأصنام وغيرها من دون الله- لا تغني في البحر شيئاً، وكانوا ينسبون ذلك شركاء مع طلوعهم إلى البر كانوا بمنزلة من لا يعد ذلك آية أصلاً، فلذلك أكد قوله‏:‏ ‏{‏إن في ذلك‏}‏ أي ما ذكر من حال السفن في سيرها وركودها مما لا يقدر عليه إلا الله سبحانه بدليل ما للناس كافة من الإجماع على التوجه في ذلك إليه خاصة والانخلاع مما سواه ‏{‏لآيات‏}‏ أي على أن إحاطته سبحانه بجميع صفات الكمال أمر مركوز في العقول ثابت في الفطر الأولى مما لا يصد عنه إلا الهوى، وعلى أن بطلان أمر ما دونه لذلك هو من الظهور بمكان لا يجهل‏.‏

ولما كانوا يتمادحون بالصبر على نوازل الحدثان والشكر لكل إحسان ويتذامون بالجزع والكفران، وكان ذلك يقتضي ثباتهم على حال واحد فإن كان الحق عليهم لمعبوداتهم فرجوعهم عنها عند الشدائد مما لا ينحو نحوه ولا يلتفت لفتة أحد من كمل الرجال الذين يجانبون العار والاتسام بمسيم الإغمار، وإن كان الحق كما هو الحق لله فرجوعهم عنه عند الرخاء بعد إنعامه عليهم بإنجائهم من الشدة لا يفعله ذو عزيمة، قال مشيراً إلى ذلك بصيغتي المبالغة‏:‏ ‏{‏لكل صبار‏}‏ أي في الشدة ‏{‏شكور *‏}‏ أي في الرخاء وإن كثر مخالفوه، وعظم نزاعهم له، وهاتان صفتا المؤمن المخلص الذي وكل همته بالنظر في الآيات فهو يستملي منها العبر ويجلو بها من البصيرة عين البصر‏.‏

ولما نبه بهذا الاعتراض بين الجزاء ومعطوفه على ما فيه من دقائق المعاني في جلائل المباني، قال مكملاً لما في ذلك من الترغيب في صورة الترهيب‏:‏ ‏{‏أو‏}‏ أي أو أن يشاء في كل وقت أراده، واسند الإيباق إلى الجواري تأكيداً لإرادة العموم في هلاك الركاب فقال‏:‏ ‏{‏يوبقهن‏}‏ أي يهلكهن بالإغراق بإرسال الريح وغير ذلك من التباريح حتى كأنهن بعد ذلك العلو في وقبه أي حفره، وطاق في الماء وقعره، وقد تقدم تحقيق معنى «وبق» بجميع تقاليبه في سورة الكهف، ومنه أن وبق كوعد ووجل وورث وبوقاً وموبقاً‏:‏ هلك، والموبق كمجلس‏:‏ المهلك وكل شيء حال بين شيئين لأن الوقبة تحول بين ما فيها وبين غيره، ومنه قيل للموعد‏:‏ موبق، وأوبقه‏:‏ حبسه أو أهلكه‏.‏

ولما كان الإهلاك لهن إهلاكاً للركاب، قال مبيناً أنهم المقصودون مجرداً الفعل إشارة إلى أن ابن آدم لما طبع عليه من النقائص ليس له من نفسه فعل خال عن شوب نقص حثاً له على اللجوء إلى الله في تهذيب نفسه وإخلاص فعله‏:‏ ‏{‏بما كسبوا‏}‏ أي فعلوا من المعاصي بجدهم فيه واجتهادهم‏.‏

ولما كان التقدير تفصيلاً للإيباق‏:‏ فيغرق كل من فيهن إن شاء ويغرق كثيراً منهم إن شاء عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏ويعف‏}‏ أي إن يشاء ‏{‏عن كثير *‏}‏ أي من الناس الذين في هذه السفن الموبقه، فينجيهم بعوم أو حمل عى خشبة أو غير ذلك، وإن يشأ يرسل الريح طيبة فينجيها ويبلغها أقصى المراد إلى غير ذلك من التقادير الداخلة تحت المشيئة، فالفعل كما ترى عطف على يوبق، وعطف بالواو لأنه قسم من حالي الموبقة، وهو بمعنى ما ورى عن أهل المدينة من نصب «يعفو» بتقدير «إن» ليكون المعنى‏:‏ يوقع إيباقاً وعفواً‏.‏

ولما كان هذا كله على صورة الاختبار لن يستبصر فيدوم إخلاصه، ومن يرجع إلى العمى فلا يكون خلاصه، قال مبيناً بالنصب للصرف عن العطف على شيء من الأفعال الماضية لفساد المعنى لكونها في حيز الشرط، فيصير العلم أيضاً مشروطاً‏:‏ ‏{‏ويعلم الذين يجادلون‏}‏ أي عند النجاة بالعفو‏.‏ ولما كان مقام العظمة شديد المنافاة للمجادلة، لفت القول إليه فقال‏:‏ ‏{‏في آياتنا‏}‏ أي هذه التي لا تضاهي عظمتها ولا تقايس جلالتها وعزتها رجوعاً إلى ما كانوا عليه من الشرك والنزاع في تمام القدرة بإنكار البعث، ومن واو الصرف يعرف أن مدخولها مفرد في تأويل المصدر لأن النصب فيها بتقدير أن فيكون مبتدأ خبره ما يدل عليه السياق فالتقدير هنا‏:‏ وعلمه سبحانه بالمجادلين عند هذا حاصل، والتعبير عنه بالمضارع لإفادة الاستمرار لتجدد تعلق العلم بكل مجادل كلما حصل جدال، وقراءة نافع وابن عامر بالرفع دالة على هذا، فإن التقدير‏:‏ وهو يعلم- فالرفع هنا والنصب سواء، قال الرضي في شرح قول ابن الحاجب في نواصب الفعل‏:‏ والفاء- أي ناصبة- بشرطين‏:‏ السببية، والثاني أن يكون قبلها أحد الأشياء الثمانية، والواو الواقعتين بعد الشرط قبل الجزاء نحو أن تأتني فتكرمني أو تكرمني أنت، أو بعد الشرط والجزاء‏:‏ إن تأتني إنك فأكرمك أو وأكرمك، وذلك لمشابهة الشرط في الأول والجزاء في الثاني النفي، إذ الجزاء مشروط ووجوده بوجود الشرط، ووجود الشرط مفروض، فكلاهما غير موصوفين بالوجود حقيقة، وعليه حمل قوله تعالى ‏{‏ويعلم الذين‏}‏ في قراءة النصب، ثم قال‏:‏ وكذا يقول في الفعل المنصوب بعد واو الصرف أنهم لما قصدوا فيها معنى الجمعية نصبوا المضارع بعدها ليكون الصرف عن سنن الكلام المتقدم مرشداً من أول الأمر أنها ليست للعطف فهي إذن إما واو الحال وأكثر دخولها على الاسمية فالمضارع بعدها في تقدير مبتدأ محذوف الخبر وجوباً، فمعنى قم وأقوم‏:‏ قم وقيامي ثابت‏:‏ أي في حال ثبوت قيامي، وأما بمعنى مع وهي لا تدخل إلا على الاسم قصدوا ها هنا مصاحبة الفعل للفعل منصوباً ما بعدها، فمعنى قم وأقوم‏:‏ قم مع قيامي كما قصدوا في المفعول معه مصاحبة الاسم للاسم فنصبوا ما بعد الواو، ولو جعلنا الواو عاطفة للمصدر متصيد من الفعل قبله النجاة، أي لم يكن منك قيام وقيام مني، لم يكن فيه نصوصية على معنى الجمع، والأولى في قصد النصوصية في شيء على معنى أن يجعل على وجه يكون ظاهراً فيما قصدوا النصوصية عليه، وإنما شرطوا في نصب ما بعد فاء السببية كون ما قبلها أحد الأشياء المذكورة أي الأمر والنهي والنفي والاستفهام والتمني والعرض والتحضيض والرجاء لأنها غير حاصلة المصادر فتكون كالشرط الذي ليس بمتحقق الوقوع، ويكون ما بعد الفاء كجزائها ثم حملوا ما قبل واو الجمعية في وجوب كون أحد الأشياء المذكورة على ما قبل فاء السببية التي هي أكثر استعمالاً من الواو في مثل هذا الموضع أعني في انتصاب المضارع بعدها، وذلك لمشابهة الواو للفاء في أصل العطف، وفي صرف ما بعدهما عن سنن العطف لقصد السببية في إحداهما والجمعية في الأخرى، ولقرب الجمعية من التعقب الذي هو لازم السببية ثم قال‏:‏ وكذا ربما لم يصرف بعد واو الحال قد تدخل على المضارع المثبت كما ذكرنا في باب الحال، نحو قمت وأضرب زيداً أي وأنا أضرب‏.‏

ولما كان علم القادر بالمعصية موجباً لعذاب من عصاه، كان كأنه قيل‏:‏ قد خسر من فعل ذلك فيا ليت شعري ما يكون حالهم‏؟‏ أجاب بقوله‏:‏ ‏{‏ما لهم من محيص *‏}‏ أي محيد ومفر أصلاً عن عذابه، ولا بشيء يسير، وإن تأخر في نظركم إيقاع العذاب بهم فإن عذابه سبحانه منه ما هو باطن وهو الاستدراج بالنعم وهذا لا يدركه إلا أرباب القلوب المقربون لدى علام الغيوب، ومنه ما هو ظاهر، ويجوز أن يكون «الذين» فاعل «يعلم»، وحينئذ تكون هذه الجملة في محل نصب لسدها مسد مفعول العلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏36- 39‏]‏

‏{‏فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ‏(‏36‏)‏ وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ ‏(‏37‏)‏ وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ‏(‏38‏)‏ وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ ‏(‏39‏)‏‏}‏

ولما علم أن جميع النعم من الغيث وأثاره، ومن نشر الدواب براً وبحراً بمعرض من الزوال وهو عظيم التقلبات هائل الأحوال سبب عنه قوله محقراً لدنياهم وما فيها من الزهرة بسرعة الذبول والزوال، والأفوال والارتحال، ولهم بأنها مع ما ذكر لا قدرة لهم على شيء منها إلا يموت يمن عليهم بها، وأما هم فقوم ضعفاء لا قدرة لهم على شيء وليس لهم من أنفسهم إلا العجز، فلو عقلوا لعلموا ولو علموا لعملوا عمل العبيد، وأطاعوا القوي الشديد‏:‏ ‏{‏فما أوتيتم‏}‏ أي أيها الناس ‏{‏من شيء‏}‏ أي من النعم الظاهرة، وأجاب «ما» الشرطية بقوله‏:‏ ‏{‏فمتاع الحياة الدنيا‏}‏ أي القريبة الدنيئة لا نفع فيه لأحد إلا مدة حياته، وذلك جدير بالإعراض عنه وعما يسببه من الأعمال إلا ما يقرب إلى الله ‏{‏وما‏}‏ أي والذي، ولفت الكلام عن مظهر العظمة إلى أعظم منها بذكر الاسم الجامع للترغيب في ذكر آثار الأوصاف الجمالية والترهيب من آثار النعوت الجلالية فقال‏:‏ ‏{‏عند الله‏}‏ أي الملك الأعظم المحيط بكل شيء قدرة وعلماً من نعم الدارين ‏{‏خير‏}‏ أي في نفسه وأشد خيرية من النعم الدنيوية المحضة لانقطاع نفعها‏.‏ ولما كانت النعم الدنيوية قد تصحب الإنسان طول عمره فتسبب بذلك إلى البقاء قال‏:‏ ‏{‏وأبقى‏}‏ أي من الدنيوية لأنه لا بد من نزعها منه بالموت، ولذلك قيد بالحياة فلا تؤثر الفاني على خساسته على الباقي مع نفاسته‏.‏

ولما بين ما لها من النفاسة ترغيباً فيها، بين من هي له فقال‏:‏ ‏{‏للذين آمنوا‏}‏ أي أوجدوا هذه الحقيقة ‏{‏وعلى‏}‏ أي والحال أنهم صدقوها بأنهم على، ولفت القول إلى صفة الإحسان لأنها نسب شيء للمتوكل، وأحكم الأمر بالإضافة إشارة إلى «إنه إحسان» هو في غاية المناسبة لحالهم فقال‏:‏ ‏{‏ربهم‏}‏ أي الذي لم يروا إحساناً قط إلا منه وحده بما رباهم من الإخلاص له ‏{‏يتوكلون‏}‏ أي يحملون جميع أمورهم عليه كما يحمل غيرهم متاعه على من يتوسم فيه قوة على الحمل ولا يلتفتون في ذلك إلى شيء غيره أصلاً لينتفي عنهم بذلك الشرك الخفي كما انتفى بالإيمان الشرك الجلي، والتعبير بأداة الاستعلاء تمثيل للإسناد والتفويض إليه بالحمل عليه لأن الحمل أبين في الراحة، وأظهر في البعد من الهم والمشقة، ولعل التعبير بالمضارع للتخفيف في أمر التوكل بالرضى بتجديده كلما تجدد مهم، ومن كان كذلك كان الله كافيه كل ملم، فيشاركون أهل الدنيا في نيل نعمها ويفارقونهم في أن ربهم سبحانه يجعلها على وجه لا حساب عليهم فيها، بل ولهم فيها الأجور الموجبة للنعمة والحبور، وفي أنه يجعلها كافية لمهماتهم وسادّة لخلاتهم، ويزيدهم الباقيات الصالحات التي يتسبب عنها نعيم الآخرة بعد راحة الدنيا‏.‏

ولما كان كل من الإيمان والتوكل امراً باطناً فكان لا بد من دلائله من ظواهر الأعمال، وكانت تخليات من الرذائل وتحليات بالفضائل وكانت التخليات لكونها درء للمفاسد مقدمة على التحليات التي هي جلب للمصالح قال عاطفاً على ‏{‏الذين‏}‏‏:‏ ‏{‏والذين يجتبنون‏}‏ أي يكلفون أنفسهم أن يجابوا ‏{‏كبائر الإثم‏}‏ أي جنس الفعال الكبار التي لا توجد إلا ضمن أفرادها ويحصل بها دنس للنفس، فيوجب عقاباً لها مع الجسم، وعطف على ‏{‏كبائر‏}‏ قوله‏:‏ ‏{‏والفواحش‏}‏ وهي ما أنكره الشرع والعقل والطبع التي هي آيات الله الثلاث التي نصبها حجة على عباده وله الحجة البالغة فاستعظم الناس أمرها ولو أنها صغائر لدلالتها على الإخلال بالمروءة كسرقة لقمة والإقرار على المعصية من شيخ جليل القدر لمن لا يخشاه ولا يرجوه، وقرأ حمزة والكسائي‏:‏ كبير، وهو للجنس، فهو بمعنى قراءة الجمع أو هي أبلغ لشمولها المفرد‏.‏ ولما ذكر ما قد تقود إليه المطامع دون حمل الغضب الصارع قال منبهاً على عظمته معبراً بأداة التحقق دلالة على أنه لا به منه توطيناً للنفس عليه معلقاً بفعل الغفر‏:‏ ‏{‏وإذا‏}‏ وأكد بقوله‏:‏ ‏{‏ما‏}‏ وقدم الغضب إشارة إلى الاهتمام بإطفاء جمره وتبريد حره فقال‏:‏ ‏{‏غضبوا‏}‏ أي غضباً هو على حقيقته من أمر مغضب في العادة، وبين بضمير الفصل أن بواطنهم في غفرهم كظواهرهم فقال‏:‏ ‏{‏هم يغفرون‏}‏ أي الإحصاء والإخفاء بأنهم كلما تجدد لهم غضب جددوا غفراً أي محواً للذنب عيناً وأثراً مع القدرة على الانتقام فسجاياهم تقتضي الصفح دون الانتقام ما لم يكن من الظالم بغي لأنه لا يؤاخذ على مجرد الغضب إلا متكبر، والكبر لا يصلح لغير الإله وذلك لأنه لا يغيب أحلامهم عند اشتداد الأمر ما يغيب أحلام غيرهم من طيش الجهل وسفاهة الرأي، فدل ذلك على أن الغفر دون غضب لا يعد بالنسبة إلى الغفر معه، وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم ما انتقم لنفسه قط إلا أن تنتهك حرمات الله، وروى ابن أبي حاتم عن إبراهيم قال‏:‏ كان المؤمنون يكرهون أن يستذلوا وكانوا أذا قدروا عفوا‏.‏

ولما أتم ما منه التحلي، أتبعه ما به التخلي، وذكر أوصافاً أربعة هي قواعد النصفة ما انبنى عليها قط ربعها إلا كان الفاعلون لها كالجسد الواحد لا تأخذهم نازلة في الدنيا ولا في الآخرة فقال‏:‏ ‏{‏والذين استجابوا‏}‏ أي أوجدوا الإجابة بمالهم من العلم الهادي إلى سبيل الرشاد ‏{‏لربهم‏}‏ أي الداعي لهم إلى إجابته إحسانه إليهم إيجاداً من شدة حمل أنفسهم عليه يطلبونه من أنفسهم طلباً عظيماً صادقاً لم يبق معه لأحدهم نفس ولا بقية من وهم ولا رسم إلا على موافقة رضاه سبحانه لأنهم يعلمون أنه ما دعاهم إليه وهو مربيهم لصلاحهم وسعدهم وفلاحهم، لأنه محيط العلم شديد الرحمة لا يتهم بوجه من الوجوه‏.‏

ولما كان هذا عاماً لكل خير دعا إليه سبحانه، خص أعظم عبادات البدن، وزاد في عظمتها بالتعبير بالإقامة فقال‏:‏ ‏{‏وأقاموا‏}‏ أي بما لهم من القوة ‏{‏الصلاة‏}‏ فأفهم ذلك مع اللام أنهم أوجدوا صورتها محمولة بروحها على وجه يقتضي ثبوتها دائماً‏.‏ ولما كانت الاستجابة توجب للاتحاد القلوب بالإيمان الموجب للاتحاد في الأقوال والأفعال، والصلاة توجب الاتحاد بالأبدان، ذكر الاتحاد بالأقوال الناشئ عنه عند أولي الكمال الاتحاد في الأفعال، فقال معبراً بالاسمية حثاً على أن جعلوا ذلك لهم خلقاً ثابتاً لا ينفك‏:‏ ‏{‏وأمرهم‏}‏ أي كل ما ينوبهم مما يحوجهم إلى تدبير ‏{‏شورى‏}‏ أي يتشاورون فيه مشاورة عظيمة مبالغين مما لهم من قوة الباطن وصفائه في الإخلاص والنصح، من الشور وهو العرض والإظهار ‏{‏بينهم‏}‏ أي بحيث إنهم لا فرق في حال المشاورة بين كبير منهم وصغير بل كل منها يصغي إلى كلام الآخر وينظر في صحته وسقمه بتنزيله على أصول الشرع وفروعه، فلا يستبدل أحد منهم برأي لدوام اتهامه لرأيه لتحققه نقصه بما له من غزارة العلم وصفاء الفهم ولا يعجلون في شيء بل صار التأبي لهم خلقاً، وسوق المشورة هذا السياق دال على عظيم جدواها وجلالة نفعها قال الحسن رحمه الله‏:‏ ما تشاور قوم إلا هدوا لأرشد أمرهم- على أنه روى الطبراني في الصغير والأوسط لكن بسند ضعيف عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «ما خاب من استخار ولا ندم من استشار ولا عال من اقتصد» وروى في الأوسط عن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «من أراد أمراً فشاور فيه أمرأ مسلماً وفقه الله لأرشد أمره»‏.‏

ولما كانت المواساة بالأموال بعد الاتحاد في الأقوال والافتاق في الأفعال أعظم جامع على محاسن الخلال، واظهر دال على ما ادعى من الاتحاد في الحال والمآل قال مسهلاً عليهم أمرها بأنه لا مدخل لهم في الحقيقة في تحصيلها راضياً منهم باليسير منها‏:‏ ‏{‏ومما‏}‏ ولفت القول إلى مظهر العظمة تذكيراً بما يتعارفونه بينهم من أنه لا مطمع في التقرب من العظماء إلا بالهدايا فقال‏:‏ ‏{‏رزقناهم‏}‏ أي بعظمتنا من غير حول منهم ولا قوة ‏{‏ينفقون *‏}‏ أي يديمون الإنفاق كرماً منهم وإن قل ما بأيديهم اعتماداً على فضل الله سبحانه وتعالى لا يقبضون أيديهم كالمنافقين، وذلك الإنفاق على حسب ما حددناه لهم فواسوا بالمشورة في فضل عقولهم وبالإنفاق في فضل أموالهم تقوى منهم ومراقبة لله لا شهوة نفس‏.‏

ولما كان في العقوبة مصلحة ومفسدة فندب سبحانه إلى المغفرة تقديماً لدرء المفسدة لأن الإنسان لعدم علمه بالقلوب لا يصح له بوجه أن يعاقب بمجرد الغضب لأنه قد يخطئ فيعاقب من أغضبه، وهو شريف الذات كريم الطبع على الهمة أبي النفس، ما وقع منه الذنب الذي أغضب إلا خطأ معفواً عنه أو كذب عليه فيه فيربي في نفسه أخته تفسد ذات البين فيجر إلى خراب كبير، وكانت إدامة الغفر جالبة للفساد مجرئة على العناد، وكان البغي هو التمادي في السوء محققاً لقصد الذنب مجوزاً للإقدام على الانتقام، وكان الانتصار من الفجار ربما أحوج مع قوة الجنان إلى إنفاق المال، عقب الإنفاق بمدح الانتصار بقوله‏:‏ ‏{‏والذين‏}‏ وذكر أداة التحقق إشارة إلى أن شرطها لا بد من وقوعه بالفعل أو بالقوة فقال ناصباً بفعل الانتصار مقدماً لما من شأن النفس الاهتمام بدفعه لعدم صبرها عليه‏:‏ ‏{‏إذا أصابهم‏}‏ أي وقع بهم وأثر فيهم ‏{‏البغي‏}‏ وهو التمادي على الرمي بالشر ‏{‏هم‏}‏ أي بأنفسهم خاصة لما لهم من قوة الجنان والأركان المعلمة بأن ما تقدم من غفرانه ما كان إلا لعلو شأنهم لا لهوانهم ‏{‏ينتصرون *‏}‏ أي يوقعون بالعلاج بما أعطاهم الله من سعة العقل وشدة البطش وقوة القلب النصر لأنفسهم في محله على ما ينبغي من زجر الباغي عن معاودتهم وعن الاجتراء على غيرهم مكررين لذلك كلما كرر لهم فيكون ذلك من إصلاح ذات البين، ليسوا بعاجزين ولا في أمر دينهم متوانين، والتعبير في هذه الأفعال بالإسناد إلى الجمع إشارة إلى أنه لا يكون تمام التمكن الرادع إلا مع الاجتماع، ومن كان فيها مفرداً كان همه طويلاً وبثه جليلاً، قال النخعي‏:‏ كانوا يكرهون أن يذلوا أنفسهم فيجترئ عليهم الفساق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏40- 44‏]‏

‏{‏وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ‏(‏40‏)‏ وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ ‏(‏41‏)‏ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏42‏)‏ وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ‏(‏43‏)‏ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ ‏(‏44‏)‏‏}‏

ولما كان الإذن في الانتصار في هذا السياق المادح مرغباً فيه مع ما للنفس من الداعية إليه، زجر عنه لمن كان له قلب أولاً بكفها عن الاسترسال فيه وردها على حد المماثلة، وثانياً بتسميته سيئة وإن كان على طريق المشاكلة، وثالثاً بالندب إلى العفو، فصار المحمود منه إنما هو ما كان لإعلاء كلمة الله لا شائبة فيه للنفس أصلاً فقال‏:‏ ‏{‏وجزاء سيئة‏}‏ أي أي سيئة كانت ‏{‏سيئة مثلها‏}‏ أي لا تزيد عليها في عين ولا معنى أصلاً، وقد كفلت هذه الجمل بالدعاء إلى أمهات الفضائل الثلاث العلم والعفة والشجاعة على أحسن الوجوه، فالمدح بالاستجابة والصلاة دعاء إلى العلم، وبالنفقة إلى العفة، وبالانتصار إلى الشجاعة، حتى لا يظن ظان أن إذعانهم لما مضى مجرد ذل، والقصر على المماثلة دعاء إلى فضيلة التقسيط بين الكل وهي العدل، وهذه الأخيرة كافلة بالفضائل الثلاث، فإن من علم المماثلة كان عالماً، ومن قصد الوقوف عندها كان عفيفاً، ومن قصر نفسه على ذلك كان شجاعاً، وقد ظهر من المدح بالانتصار بعد المدح بالغفران أن الأول للعاجز والثاني للمتغلب المتكبر بدليل البغي‏.‏

ولما كان شرط المماثلة نادباً بعد شرع العدل الذي هو القصاص إلى العفو الذي هو الفصل لأن تحقق المثلية من العبد الملزوم للعجز لا يكاد يوجد، سبب عنه قوله‏:‏ ‏{‏فمن عفا‏}‏ أي بإسقاط حقه كله أو بالنقص عنه لتتحقق البراءة مما حرم من المجاوزة ‏{‏وأصلح‏}‏ أي أوقع الإصلاح بين الناس بالعفو والإصلاح لنفسه ليصلح الله ما بينه وبين الناس، فيكون بذلك منتصراً من نفسه لنفسه ‏{‏فأجره على الله‏}‏ أي المحيط بجميع صفات الكمال فهو يعطيه على حسب ما يقتضيه مفهوم هذا الاسم الأعظم، وهذا سر لفت الكلام إليه عن مظهر العظمة وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً»‏.‏

ولما كان هذا ندباً إلى العفو بعد المدح بالانتصار، بين أن علته كراهة أن يوضع شيء في غير محله لأنه لا يعلم المماثلة في ذلك إلا الله، فقال مضمراً إشارة إلى أن المثلية من الغيب الخفي مؤكداً لكف النفس لما لها من عظم الاسترسال في الانتصار‏:‏ ‏{‏إنه لا يحب الظالمين *‏}‏ أي لا يكرم الواضعين للشيء في غير محله دأب من يمشي في مأخذ الاشتقاق إذا كان عريقاً في ذلك سواء كان ابتداء أو مجاوزة في الانتقام بأخذ الثأر‏.‏

ولما كان هذا ساداً لباب الانتصار لما يشعر به من أنه ظلم على كل، قال مؤكداً نفياً لهذا الإشعار‏:‏ ‏{‏ولمن انتصر‏}‏ أي سعى في نصر نفسه بجهده ‏{‏بعد ظلمه‏}‏ أي بعد ظلم الغير له وليس قاصد البعد عن حقه ولو استغرق انتصاره جميع زمان البعد‏.‏

ولما بين تعالى ما لذلك الناظر في مصالح العباد المنسلخ من خط نفسه إحساناً إلى عباد الله من الرتبة العليا، بين ما لهذا الذاب عن نفسه القاصد لشفاء صدره وذهاب غيظه، فقال رابطاً للجزاء بفاء السبب بياناً لقصور نظره على دفع الظلم عن نفسه، ويجوز كون ‏{‏من‏}‏ موصولة والفاء لما للموصول من شبه الشرط‏.‏

ولما عبر أولاً بالإفراد فكان ربما قصر الإذن على الواحد لئلا تعظم الفتنة، جمع إشارة إلى أن الفتنة إنما هي في إقرار الظلم لا في نصر المظلوم واحداً كان أو جماعة فقال‏:‏ ‏{‏فأولئك‏}‏ أي المنتصرون لأجل دفع ظلم الظالم عنهم فقط ‏{‏ما عليهم‏}‏ وأكد بإثبات الجار فقال‏:‏ ‏{‏من سبيل *‏}‏ أي عقاب ولا عتاب، وروى النسائي وابن ماجه عن عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ «ما علمت حتى دخلت عليَّ زينب رضي الله عنها بغير إذن وهي غضبى ثم أقبلت عليّ فأعرضت عنها حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ دونك فانتصري، فأقبلت عليها حتى رأيتها قد يبس ريقها في فيها ما ترد عليّ شيئاً، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتهلل وجهه»‏.‏

ولما نفى السبيل عنه بعد تشوف السامع إلى موضع ما أشعر به الكلام السابق من الظلم، بين ذلك فقال‏:‏ ‏{‏إنما السبيل‏}‏ أي الطريق السالك الي لا منع منه أصلاً بالحرج والعنت ‏{‏على‏}‏ وجمع إعلاماً بكثرة المفسدين تجرئة على الانتصار منهم وإن كانوا كثيراً فإن الله خاذلهم فقال‏:‏ ‏{‏الذين يظلمون الناس‏}‏ أي يوقعون بهم ظلمهم تعمداً عدواناً ‏{‏ويبغون‏}‏ أي يتجاوزن الحدود ‏{‏في الأرض‏}‏ بما يفسدها بعد إصلاحها بتهيئتها للصلاح طبعاً وفعلاً وعلماً وعملاً‏.‏ ولما كان الفعل قد يكون بغياً وإن كان مصحوباً بحق كالانتصار المقترن بالتعدي فيه قال‏:‏ ‏{‏بغير الحق‏}‏ أي الكامل ولما أثبت عليهم بهذا الكلام السبيل، كان السامع جديراً بأن يسأل عنه فقال‏:‏ ‏{‏أولئك‏}‏ أي البغضاء البعداء من الله ‏{‏لهم عذاب أليم *‏}‏ أي مؤلم بما آلموا من ظلموه من عباد الله بحيث يعم إيلامه أبدانهم وأرواحهم بما لها من المشاعر الظاهرة والباطنة‏.‏

ولما أفهم سياق هذا الكلام وترتيبه هكذا أن التقدير‏:‏ فلمن صبر عن الانتصار أحسن حالاً ممن انتصر، لأن الخطأ في العفو أولى من الخطأ في الانتقام، عطف عليه مؤكداً لما أفهمه السياق أيضاً من مدح المنتصر‏:‏ ‏{‏ولمن صبر‏}‏ عن الانتصار من غير انتقام ولا شكوى ‏{‏وغفر‏}‏ فصرح بإسقاط العقاب والعتاب فمحا عين الذنب وأثره‏:‏ ‏{‏إن ذلك‏}‏ أي ذلك الفعل الواقع منه البالغ في العلو جداً لا يوصف ‏{‏لمن عزم الأمور *‏}‏ أي الأمور التي هي لما لها من الأهلية لأن يعزم عليها قد صارت في أنفسها كأنها دوات العزم أو متأهلة لأن تعزم على ما تريد، والعزم‏:‏ الإقدام على الأمر بعد الروية والفكرة، قال أبو علي بن الفراء؛ آيات العفو محمولة على الجاني النادم، وآيات مدح الانتصار على المصر، وذلك إنما يحمد مع القدرة على تمام النصرة كما قال يوسف عليه الصلاة والسلام لإخوته

‏{‏لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم‏}‏ ‏[‏الآية‏:‏ 92‏]‏ وقال‏:‏ فعل النبي صلى الله عليه وسلم في مواطن كثيرة منها الموقف الأعظم الذي وقفه يوم الفتح عند باب الكعبة وقال لقريش وهم تحته كالغنم المطيرة‏:‏ «ما تظنون أني فاعل بكم يا معشر قريش‏؟‏ قالوا‏:‏ خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم، قال‏:‏ اذهبوا فأنتم الطلقاء»، وروى أحمد وأبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً شتم أبا بكر رضي الله عنه فلما رد عليه قام صلى الله عليه وسلم ثم قال‏:‏ «يا أبا بكر‏!‏ ثلاث كلهن حق ما من عبد مظلم مظلمة فعفى عنها لله إلا أعز الله بها نصره، وما فتح رجل باب عطية يريد بها صلة إلا زاده الله بها كثرة وما فتح رجل باب مسألة يريد بها كثرة إلا زاده الله بها قلة»‏.‏

ولما بان في هذا الكلام المقتصر على الصبر والجامع إليه الغفر والمقتضي بالنصر أدرجهم كلهم في دائرة الحق، أتبعه من خرج عن تلك الدائرة، فقال مخبراً أن ما شاءه كان وما لم يشأه لم يكن عطفاً على نحو‏:‏ فمن يهدي الله للوقوف عند هذه الحدود فما له من مضل، مبيناً بلفظ الضلال أن ما شرعه من الطريق في غاية الوضوح لا يزيغ عنه أحد إلا بطرد عظيم‏:‏ ‏{‏ومن يضلل الله‏}‏ أي الذي له صفات الكمال إضلالاً واضحاً بما أفاده الفك بعدم البيان أو بعدم التوفيق لمطلق الصبر أعم من أن يكون الاقتصار على أخذ الحق وبتأخير الحق إلى وقت وبالعفو وبالغفر‏.‏

ولما كان الضال عن ذلك لا يكون إلا مجبولاً على الشر، سبب عنه قوله‏:‏ ‏{‏فما له‏}‏ أي في ذلك الوقت ‏{‏من ولي‏}‏ أي يتولى أمره في الهداية بالبيان لما أخفاه الله عنه أو التوفيق لما بينه له ‏{‏من بعده‏}‏ أي من بعد معاملة الله له معاملة البعيد من وكله إلى نفسه وغيره من الخلق في شيء من زمان البعد ولو قل‏.‏

ولما كان مبنى أمر الضال على الندم ولو بعد حين، قال عاطفاً على نحو‏:‏ فترى الظالمين قبل رؤية العذاب في غاية الجبروت والبطر والتكذيب بالقدرة عليهم، فهم لذلك لا يرجون حساباً ولا يخافون عقاباً‏:‏ ‏{‏وترى‏}‏ وقال‏:‏ ‏{‏الظالمين‏}‏ موضع «وتراهم» لبيان أن الضال لا يضع شيئاً في موضعه، ولما كان عذابهم حتماً، عبر عنه بالماضي فقال‏:‏ ‏{‏لما رأوا العذاب‏}‏ أي المعلوم مصير الظالم إليه رؤية محيطة بظاهره وباطنه يتمنون الرجعة إلى الدنيا لتدارك ما فات من الطاعات الموجبة للنجاة ‏{‏يقولون‏}‏ أي مكررين مما اعتراهم من الدهش وغلب على قلوبهم من الوجل‏:‏ ‏{‏هل إلى مرد‏}‏ أي رد إلى دار العمل وزمانه مخلص من هذا العذاب ‏{‏من سبيل‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏45- 48‏]‏

‏{‏وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ ‏(‏45‏)‏ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ ‏(‏46‏)‏ اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ ‏(‏47‏)‏ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ ‏(‏48‏)‏‏}‏

ولما أثبت رؤيتهم العذاب، أثبت دنوهم من محله وبين حالهم في ذلك الدنو فقال‏:‏ ‏{‏وتراهم‏}‏ أي يا أكمل الخلق ويا أيها المتشوف إلى العلم بحالهم بعينك حال كونهم ‏{‏يعرضون‏}‏ أي يجدد عرضهم ويكرر، وهو إلجاؤهم إلى أن يقارنوها بعرضهم الذي يلزم محاذاتهم لها أيضاً بطولهم ليعلموا أنها مصيرهم فلا مانع لها منهم ‏{‏عليها‏}‏ أي النار التي هي دار العذاب مكرراً عرضهم في طول الموقف مع ما هم فيه من تلك الأهوال بمقاساة ما عليهم من الأحمال الثقال حال كونهم ‏{‏خاشعين‏}‏ أي في غاية الضعة والإلقاء باليد خشوعاً هو ثابت لهم‏.‏

ولما كان الخشوع قد يكون محموداً قال‏:‏ ‏{‏من الذل‏}‏ لأنهم عرفوا إذ ذاك ذنوبهم وانكشفت لهم عظمة من عصوه‏.‏

ولما كان الذل ألواناً، صوره بأقبح صورة فقال معبراً بلفظ النظر الذي هو مماسة البصر لظاهر المبصر‏:‏ ‏{‏ينظرون‏}‏ أي يبتدئ نظرهم المتكرر ‏{‏من طرف‏}‏ أي تحريك للأجفان ‏{‏خفي‏}‏ يعرف فيه الذل لأنه لا يكاد من عدم التحديق يظن أنه يطرف لأنهم يسارقون النظر مسارقة كما ترى الإنسان ينظر إلى المكاره، والصبور ينظر إلى السيف الذي جرد له فهو بحيث لا يحقق منظوراً إليه، بل ربما تخيله بأعظم مما هو عليه‏.‏ ولما صور حالهم وكان من أفظع الأشياء وأقطعها للقلوب شماتة العدو، قال مبشراً لجميع أصناف أهل الإيمان ورادعاً لأهل الكفران‏:‏ ‏{‏وقال‏}‏ أي في ذلك الموقف الأعظم على سبيل التعبير لهم والتبكيت والتوبيخ والتقريع ‏{‏الذين آمنوا‏}‏ أي أوقعوا هذه الحقيقة سواء كان إيقاعهم لها في أدنى الرتب أو أعلاها عند رؤيتهم إياهم على هذا الحال، مؤكدين لتحقيق مقالهم عند من قضى بضلالهم والإعلام بما لهم من السرور بصلاح حالهم، والحمد لمن من عليهم بحس منقلبهم ومآلهم، ويجوز أن يكون قولهم هذا في الدنيا لما غلب على قلوبهم من الهيبة عندما تحققوا هذه المواعظ‏:‏ ‏{‏إن الخاسرين‏}‏ أي الذين كملت خسارتهم هم خاصة ‏{‏الذين خسروا أنفسهم‏}‏ بما استغرقها من العذاب ‏{‏وأهليهم‏}‏ بمفارقتهم لهم إما في إطباق العذاب إن كانوا مثلهم في الخسران أو في دار الثواب إن كانوا من أهل الإيمان‏.‏

ولما أخبر بخسارتهم بين ظرفها تهويلاً لها، ويجوز أن يكون ظرفاً لهذا القول وهو أردع لمن له مسكة لأن من جوز أن يخسر وأن عدوه يطلع على خسارته ويظهر الشماتة به، كان جديراً بأن يترك السبب الحامل على الخسارة فقال‏:‏ ‏{‏يوم القيامة‏}‏ أي الذي هو يوم فوت التدراك لأنه للجزاء لا للعمل لفوات شرطه بفوات الإيمان بالغيب لانكشاف الغطاء‏.‏ ولما كان هذا نهاية الخسارة، أنتج قوله منادياً ذاكراً سبب هذه الخسارة المعينة مؤكداً لأجل إنكار الظالمين لها وإن كان من تتمه قول المؤمنين هناك، فالتأكيد مع ما يفيد الإخبار به في هذه الدار من ردع المنكر للإعلام بما لهم من اللذة فيما رأوا من سوء حالهم وتقطع أوصالهم ورجائهم من أن ينقطع عنهم ذلك كما ينقطع عن عصاة المؤمنين‏:‏ ‏{‏ألا إن الظالمين‏}‏ أي الراسخين في هذا الوصف فهم بحيث لا ينفكون عن فعل الماشي في الظلام بوضع الأشياء في غير مواضعها ‏{‏في عذاب مقيم *‏}‏ لا يزايلهم أصلاً، فلذلك لا يفرغون منه في وقت من الأوقات، فلذلك كان خسرانهم لكل شيء‏.‏

ولما كانت العادة جارية بأن من وقع في ورطة وجد في الأغلب ولياً ينصره لأو سبيلاً ينجيه، قال عاطفاً على ‏{‏وتراهم‏}‏ أو «ألا إن»‏:‏ ‏{‏وما كان‏}‏ أي صح ووجد ‏{‏لهم‏}‏ وأعرق في النفي فقال‏:‏ ‏{‏من أولياء‏}‏ فما لهم من ولي لأن النصرة إذا انتفت من الجمع انتفت من الواحد من باب الأولى‏.‏

ولما كان من يفعل فعل القريب لا يفيد إلا إن كان قادراً على النصرة قال‏:‏ ‏{‏ينصرونهم‏}‏ أي يوجدون نصرهم في وقت من الأوقات لا في الدنيا بأن يقدروا على إنقاذهم من وصف الظلم ولا في الآخرة بإنقاذهم مما جرى عليهم من العذاب‏.‏ ولما كان الله تعالى يصح منه أن يفعل ما يشاء بواسطة أو غيرها قال‏:‏ ‏{‏من دون الله‏}‏ أي ما صح ذلك وما استقام بوجه بغيره، وأما هو فيصح ذلك منه ويستقيم له لإحاطته بأوصاف الكمال ولو أراد لفعل ولما بين ما لهم بين ما لمن اتصف بوصفهم كائناً من كان، فقال بناء على نحو‏:‏ لأنه هو الذي أضلهم‏:‏ ‏{‏ومن يضلل الله‏}‏ أي يوجد ضلاله إيجاداً بليغاً بما أفاده الفك على سبيل الاستمرار بعدم البيان له أو بعدم التوفيق بعد البيان‏:‏ ‏{‏فما له‏}‏ بسبب إضلال له جميع صفات الجلال والإكرام، وأعرق في النفي بقوله‏:‏ ‏{‏من سبيل *‏}‏ أي تنجية من الضلال ولا مما تسبب عنه من العذب‏.‏ ولما كان هذا، أنتج قطعاً قوله‏:‏ ‏{‏استجيبوا‏}‏ أي اطلبوا الإجابة وأوجدوها، ولفت القول إلى الوصف الإحساني تذكيراً بما يحث على الوفاق، ويخجل من الخلاف والشقاق، فقال‏:‏ ‏{‏لربكم‏}‏ الذي لم تروا إحساناً إلا وهو منه فيما دعاكم إليه برسوله صلى الله عليه وسلم من الوفاء بعهده في أمره ونهيه، ولا تكونوا ممن ترك ذلك فتكونوا ممن علم أنه أضله فانسد عليه السبيل‏.‏

ولما كان الخوف من الفوت موجباً للمبادرة، قال مشيراً بالجار إلى أنه يعتد بأدنى خير يكون في أدنى زمن يتصل بالموت‏:‏ ‏{‏من قبل أن يأتي يوم‏}‏ أي يكون فيه ما لا يمكن معه فلاح؛ ثم وصفه بقوله لافتاً إلى الاسم الأعظم الجامع لأوصاف الإحسان والإنعام على المطيعين والقهر والانتقام من العاصين‏:‏ ‏{‏لا مرد‏}‏ أي لا رد ولا موضع رد ولا زمان رد ‏{‏له‏}‏ كائن ‏{‏من الله‏}‏ أي الذي له جميع العظمة وإذا لم يكن له مرد منه لم يكن له مرد من غيره، ومتى عدم ذاك أنتج قوله‏:‏ ‏{‏ما لكم‏}‏ وأعرق في النفي بقوله‏:‏ ‏{‏من ملجأ يومئذ‏}‏ أي مكان تلجؤون إليه في ذلك اليوم وحصن تتحصنون فيه من شيء تكرهونه، وزاد في التأكيد بإعادة النافي وما في حيزه إبلاغاً في التحذير فقال‏:‏ ‏{‏وما لكم من نكير *‏}‏ أي من إنكار يمكنكم به من النجاة لأن الحفظة يشهدون عليكم فإن صدقتموهم وإلا شهدت عليكم أعضاؤكم وجلودكم، ولا لكم من أحد ينكر شيئاً مما تتجاوزون به ليخلصكم منه‏.‏

ولما أنهى ما قدمه في قوله ‏{‏شرع لكم من الدين‏}‏ نهايته، ودل عليه وعلى كل ما قادته الحكمة في حيزه حتى لم يبق لأحد شبهة في شيء من الأشياء، كان ذلك سبباً لتهديدهم على الإعراض عنه وتسلية رسولهم صلى الله عليه وسلم فقال معرضاً عن خطابهم إيذاناً بشديد الغضب‏:‏ ‏{‏فإن أعرضوا‏}‏ أي عن إجابة هذا الدعاء الذي وجبت إجابته والشرع الذي وضحت وصحت طريقته بما تأيد به من الحجج، ولفت القول إلى مظهر العظمة دفعاً لما قد يوهم الإرسال من الحاجة فقال‏:‏ ‏{‏فما أرسلناك‏}‏ مع ما لنا من العظمة ‏{‏عليهم حفيظاً‏}‏ أي نقهرهم على امتثال ما أرسلناك به‏.‏ ولما كان التقدير‏.‏ فأعرض عن غير إبلاغهم لأنا إنما أرسلناك مبلغاً، وضع موضعه‏:‏ ‏{‏إن‏}‏ أي ما ‏{‏عليك إلا البلاغ‏}‏ لما أرسلناك به، وأما الهداية والإضلال فإلينا‏.‏

ولما ضمن لهذه الآية ما أرسله له، أتبعه ما جبل عليه الإنسان بياناً لأنه صلى الله عليه وسلم لا حكم له على الطباع وأن الذي عليه إنما هو الإسماع لا السماع، فقال عاطفاً على ما قبل آية الشرع من قوله ‏{‏يبسط الرزق لمن يشاء‏}‏ حاكياً له في أسلوب العظمة تنبيهاً على أنه الذي حكم عليهم بالإعراض عما هو جدير بأن لا يعرض عنه عاقل، وإيماء إلى أن الإنسان لغلبه جهله وقلة عقله يجترئ بأدنى تأنيس على من تجسد الجبال لعظمته وتندك الشوامخ من هيبته‏:‏ ‏{‏وإنا إذا أذقنا‏}‏ بعظمتنا التي لا يمكن مخالفتها‏.‏ ولما كان من يفرح بالنعمة عند انفراده بها مذموماً، عبر بالجنس الصالح للواحد فما فوقه تنبيهاً على أن طبع الإنسان عدم الاهتمام بشدائد الإخوان إلا من أقامه الله في مقام الإحسان فقال‏:‏ ‏{‏الإنسان‏}‏ أي بما جبلناه عليه من النقص بالعجلة وعدم التمالك ‏{‏منا رحمة‏}‏ أي نوعاً من أنواع الإكرام من صحة أو غنى ونحو ذلك، وأفرد الضمير إشارة إلى أنه مطبوع على أنه ليس عليه إلا من نفسه ولو كان أهل الأرض كلهم على غير ذلك، وكذا عبر بالإنسان فقال‏:‏ ‏{‏فرح بها‏}‏ أي ولو أن أهل الأرض كلهم في نقمة وبؤس وعمى فأخرجه الفرح عن تأمل ما ينفعه ليشكر، فكان ذلك لذلك كافراً للنعمة لأنه أبدل الشكر بالفرح والكفر فتوصل بالعافية إلى المخالفة، فأوقع نفسه في أعظم البلاء‏.‏

ولما دل باداة التحقق على أن النعمة هي الأصل لعموم رحمته، وأنها سبقت غضبه، دل على أن السيئة قليلة بالنسبة إليها بأداة الشك والمضارع فقال‏:‏ ‏{‏وإن‏}‏ ولما كانت المشاركة في الشدائد تهون المصائب، فكان من يزيد غمه بخصوص مصيبته عند العموم مذموماً، نبه على نقص الإنسان بذلك بالجمع فقال‏:‏ ‏{‏تصبهم سيئة‏}‏ أي نقمة وبلاء وشدة‏.‏ ولما كانت الرحمة فضلاً منه، أعلمهم أن السيئة مسببة عنهم فقال‏:‏ ‏{‏بما قدمت أيديهم‏}‏ وعبر باليد عن الجملة لأن أكثر العمل بها‏.‏ ولما كان الجواب على نهج الأول‏:‏ حزنوا فكفروا، وعدل عنه إلى ما يدل على أن جنس الإنسان موضع الكفران، ولما كانوا يدعون الشكر وينكرون الكفر، أكد قوله وسبب عن تلك الإصابة والإذاقة معاً إشارة إلى أنه لا أصل له غيرهما، فقال مظهراً موضع الضمير لينص على الحكم على الجنس من حيث هو‏:‏ ‏{‏فإن الإنسان‏}‏ أي الآنس بنفسه المعرض عن غيره بما هو طبع له بسبب مسه بضر ‏{‏كفور *‏}‏ أي بليغ الستر للنعم نساء له، ينسى بأول صدمة من النقمة جميع ما تقدم له من النعم، ولا يعرف إلا الحالة الراهنة، فإن كان في نعمه أشر وبطر، وإن كان في نقمه أيس وقنط، وهذا حال الجنس من حيث هو، ومن وفقه الله جنبه ذلك كما قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «المؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له» وليس ذلك إلا للمؤمن، والآية من الاحتباك‏:‏ قكر الفرح أولاً دالاً على الحزن ثانياً، وذكر الكفران ثانياً دال على حذفه أولاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏49- 51‏]‏

‏{‏لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ ‏(‏49‏)‏ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ‏(‏50‏)‏ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ‏(‏51‏)‏‏}‏

ولما قدم سبحانه في هذه السورة أن له التصرف التام في عالم الخلق بالأجسام المرئية وفي عالم الأمر بالأرواح الحسية والمعنوية القائمة بالأبدان والمدبرة للأديان، وغير ذلك من بديع الشأن، فقال في افتتاح السورة ‏{‏كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك‏}‏ وأتبعه أشكاله إلى أن قال ‏{‏أم يقولون افترى على الله كذباً فإن يشأ الله يختم على قلبك‏}‏ الآية ‏{‏فاطر السموات والأرض جعل لكم من أنفكسم أزواجاً ومن الأنعام أزواجاً‏}‏- الآية ‏{‏له مقاليد السماوات والأرض‏}‏ ‏{‏الله لطيف بعباده يرزق من يشاء‏}‏ ‏{‏من كان يريد حرث الآخرة‏}‏- الاية، ‏{‏ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض‏}‏، ‏{‏ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام‏}‏- الآية إلى أن ذكر أحوال الآخرة في قوله ‏{‏وترى الظالمين لما رأوا العذاب يقولون‏}‏- الآيات، وختم بتصرفه المطلق في الإنسان من إنعام وانتقام، وما له من الطبع المعوج مع ما وهبه له من العقل المقيم في أحسن تقويم، فدل ذلك على أن له التصرف التام ملكاً وملكوتاً خلقاً وأمراً، أتبعه الدليل على أن تصرفه ذلك على سبيل الملك والقهر إيجاداً وإعداماً إهانة وإكراماً، فقال صارفاً القول عن أسلوب العظمة التي من حقها دوام الخضوع وإهلاك الجبابرة إلى أعظم منها بذكر الاسم الأعظم الجامع لمظهر العظمة ومقام اللطف والإحسان والرحمة نتيجة لكل ما مضى‏:‏ ‏{‏لله‏}‏ أي الملك الأعظم وحده لا شريك له ‏{‏ملك السماوات‏}‏ كلها على علوها وارتفاعها وتطابقها وكبرها وعظمها وتباعد أقطارها ‏{‏والأرض‏}‏ جميعها على تباينها وتكاثفها واختلاف أقطارها وسكانها واتساعها‏.‏

ولما أخبر بانفراده بالملك، دل عليه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يخلق‏}‏ أي على سبيل التجدد والاستمرار ‏{‏ما يشاء‏}‏ أي وإن كان على غير اختيار العباد، ثم دل على ذلك بما يشاهد من حال الناس فانه لما استوى البشر في الإنسانية والنكاح الذي هو سبب الولادة اختلفت أصناف أولادهم‏.‏ كان ذلك أدل دليل على أنه لا اختيار لأحد معه وأن الأسباب لا تؤثر أصلاً إلا به‏.‏ ولما كانت ولادة الإناث أدل على عدم اختيار الولد وكانوا يعدونه من البلاء الذي ختم به ما قبلها قدمهن في الذكر فقال‏:‏ ‏{‏يهب‏}‏ خلقاً ومولداً ‏{‏لمن يشاء‏}‏ أولاداً ‏{‏إناثاً‏}‏ أي فقط ليس معهن ذكر كما في لوط عليه الصلاة والسلام، وعبر سبحانه فيهن بلفظ الهبة لأن الأوهام العادية قد تكتنف العقل فتحجبه عن تأمل محاسن التدبيرات الإلهية، وترمي به في مهاوي الأسباب الدنيوية، فيقع المسلم مع إسلامه في مضاهاة الكفار في كراهة البنات وفي وادي الوأد بتضييعهن أو التقصير في حقوقهن وتنبيهاً على أن الأنثى نعمة، وأن نعمتها لا تنقص عن نعمة الذكر وربما زادت، وإيقاظاً من سنة الغفلة على أن التقديم وإن كان لما قدمته لا يقدم تأنيساً وتوصية لهن واهتماماً بأمرهن، نقل ابن ميلق عن ابن عطية عن الثعلبي أن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قال‏:‏ من يمن المرأة تبكيرها بالأنثى قبل الذكر لأن الله تعالى بدأ بالإناث، ولذلك رغب النبي صلى الله عليه وسلم في الإحسان إليهن في أحاديث كثيرة ورتب على ذلك أجراً كبيراً ولأجل تضمين الهبة مع الخلق عداها باللام مع أن فعلها متعد بنفسه إلى مفعولين لئلا يتوهم أن الولد كان لغير الوالد ووهبه الله له‏.‏

ولما كان الذكر حاضراً في الذهن لشرفه وميل النفس إليه لا سيما وقد ذكر به ذكر الإناث، عرف لذلك وجبراً لما فوته من التقديم في الذكر تنبيهاً على أنه ما أخر إلا لما ذكر من المعنى فقال‏:‏ ‏{‏ويهب لمن يشاء الذكور *‏}‏ أي فقط ليس بينهن أنثى كما صنع لإبراهيم عليه السلام وهو عم لوط عليه السلام‏.‏ ولما فرغ من القسمين الأولين عطف عليهما قسيماً لهما ودل على أنه قسم بأو فقال‏:‏ ‏{‏أو يزوجهم‏}‏ أي الأولاء بجعلهم ازواجاً أي صنفين حال كونهم ‏{‏ذكراناً وإناثاً‏}‏ مجتمعين في بطن ومنفردين كما منح محمداً صلى الله عليه وسلم، ورتبهما هنا على الأصل تنبيهاً على أنه ما فعل غير ذلك فيما مضى إلا لنكت جليلة فيجب تطلبها، وعبر في الذكر بما هو أبلغ في الكثرة ترغيباً في سؤاله، والخضوع لديه رجاء نواله‏.‏

ولما فرغ من أقسام الموهوبين الثلاثة، عطف على الإنعام بالهبة سلب ذلك، فقال موضع أن يقال مثلاً‏:‏ ولا يهب شيئاً من ذلك لمن يشاء‏:‏ ‏{‏ويجعل من يشاء عقيماً‏}‏ أي لا يولد له كيحيى بن زكريا عليهما الصلاة والسلام- كذا قالوه، والظاهر أنه لا يصح مثالاً فإنه لم يتزوج، قال ابن ميلق، وأصل العقيم اليبس المانع من قابلية التأثر لما من شأنه أن يؤثر، والداء العقام هو الذي لا يقبل البرء- انتهى‏.‏ فهذا الذي ذكر أصرح في المراد لأجل ذكر العقم، وأدل على القدرة لأن شامل لمن له قوة الجماع والإنزال لئلا يظن أن عدم الولد لعدم تعاطي أسبابه، وذكروا في هذا القسم عيسى عليه الصلاة والسلام‏.‏ ولا يصح لأنه ورد أنه يتزوج بعد نزوله ويولد له، وهذه القسمة الرباعية في الأصول كالقسمة الرباعية في الفروع، بعضهم لا من ذكر ولا أنثى كآدم عليه الصلاة والسلام، وبعضهم من ذكر فقط كحواء عليها السلام، وبعضهم من أنثى فقط كعيسى عليه السلام وبعضهم من ذكر وأنثى وهو أغلب الناس، فتمت الدلالة على أنه ما شاء كان ولا راد له وما لم يشأ لم يكن، ولا مكون له ولا مانع أعطى ولا معطي لما منع‏.‏

ولما دل هذا الدليل الشهودي على ما بنيت الآية عليه من إثبات الملك له وحده مع ما زادت به من جنس السياق وعذوبة الألفاظ وإحكام الشك وإعجاز الترتيب والنظم، كانت النتيجة قطعاً لتضمن إشراكهم به الطعن في توحده بالملك مقدماً فيها الوصف الذي هو أعظم شروط الملك‏:‏ ‏{‏إنه عليم‏}‏ أي بالغ العلم بمصالح العباد وغيرها ‏{‏قدير*‏}‏ شامل القدرة على تكوين ما يشاء‏.‏

ولما تم القسم الأول مما بنى على العلم والقدرة، والقدرة فيه أظهر وفاقاً لما ختمت به الآية، وكان قد يكون خلقه إياه إبداعاً من غير توسط سبب، وقد يكون بتوسيط سبب، أتبعه القسم الآخر الأعلى الذي العلم فيه أظهر وهو الوحي الذي ختمت آيته أول السورة بالحكمة التي هي سر العلم وقسمه أيضاً إلى ما هو بواسطة وإلى ما هو بغير واسطة ولكن سر التقدير في القسم الأول الكلام وهو الذي شرف به وكان لا يمكن أحداً أن يتكلم إلا بتكليم الله له أي إيجاده الكلام في قلبه قال‏:‏ ‏{‏وما‏}‏ أي وهو سبحانه تام العلم شامل القدرة غرز في البشر غريزة العلم وأقدره على النطق به بقدرته وحياً منه إليه كما أوحى إلى النحل ونحوها والحال أنه ما ‏{‏كان لبشر‏}‏ من الأقسام المذكورة، وحل المصدر الذي هو اسم «كان» ليقع التصريح بالفاعل والمفعول على أتم وجوهه فقال‏:‏ ‏{‏أن يكلمه‏}‏ وأظهر موضع الإضمار إعظاماً للوحي وتشريفاً لمقداره بجلالة إيثاره قفال‏:‏ ‏{‏الله‏}‏ أي يوجد الملك الأعظم الجامع لصفات الكمال في قلبه كلاماً ‏{‏إلا وحياً‏}‏ أي كلاماً خفياً يوجده فيه بغير واسطة بوجه خفي لا يطلع عليه أحد إلا بخارق العادة إما بإلهام أو برؤيا منام أو بغير ذلك سواء خلق الله في المكلم به قوة السماع له وهو أشرف هذه الأقسام مطلقاً سواء كان ذلك مع الرؤية ليكون قسيماً لما بعده أولاً أو يخلق فيه ذلك ومن هذا القسم الأخير ‏{‏وأوحينا إلى أم موسى‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 7‏]‏ ‏{‏وأوحى ربك إلى النحل‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 68‏]‏ ‏{‏وأوحى في كل سماء أمرها‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 12‏]‏ فإن إيداعها القوى التي يحصل بها المنافع مثل إيداع الإنسان قوة الكلام ثم قوة التعبير عنه- والله أعلم‏.‏ وهذا معنى قول القاضي عياض في الشفاء في آخر الفصل الثاني من الباب الرابع في الإعجاز‏:‏ وقد قيل في قوله تعالى ‏{‏وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً‏}‏ الآية أي ما يلقيه في قلبه دون واسطة، ومعنى قول الإمام شهاب الدين السهروردي في الباب السادس والعشرين من عوارفه‏:‏ والعلوم اللدنية في قلوب المنقطعين إلى الله ضرب من المكالمة‏.‏

ولما كان الحجاب الحسي يخفي ما وراءه عن العيان، استعير لمطلق الخفاء فقال‏:‏ ‏{‏أو من‏}‏ أي كلاماً كائناً بلا واسطة، لكنه مع السماع لعين كلام الله كائن صاحبه من ‏{‏وراء حجاب‏}‏ أي من وجه لا يرى فيه المتكلم مع السماع للكلام على وجه الجهر، قال القشيري‏:‏ والمحجوب العبد لا الرب، والحجاب أن يخلق في محل الرؤية ضد الرؤية، وتعالى الله أن يكون من وراء حجاب لأن ذلك صفة الأجسام- انتهى‏.‏

والآية يمكن تنزيلها على الاحتباك بأن يكون ذكر الحجاب ثانياً دليلاً على نفيه أولاً، وذكر الوحي الدال على الخفاء أولاً دليلاً على الجهر ثانياً، والحجاب ثانياً دليلاً على الرؤية أولاً، وسره أن ترك التصريح والدلالة عليها بالحجاب أولى بسياق العظمة‏.‏

ولما كان الذي بلا واسطة مع كونه أخفى الأقسام ليس فيه صوت ولا ترتب في كلمات، عبر فيه بالمصدر وعبر بما يلقيه الملك بما يدل على التجدد فقال‏:‏ ‏{‏أو يرسل‏}‏ وهو عطف على المصدر بعد تقدير حله ‏{‏رسولاً‏}‏ أي من الملائكة‏.‏ ولما كان الوحي مسبباً عن الإرسال ومرتباً عليه قال‏:‏ ‏{‏فيوحي‏}‏ أي على سبيل التجديد والترتيب، وقرأ نافع برفع يرسل ويوحي بتقدير‏:‏ أو هو يرسل‏.‏ ولما كان ربما ظن أن للواسطة فعلاً يخرج عن فعله، رد ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏بإذنه‏}‏ أي بإقداره وتمكينه، فذلك المبلغ إنما هو آلة‏.‏ ولما كان رسوله لا يخرج عما حده له بوجه قال‏:‏ ‏{‏ما يشاء‏}‏ أي لا يتعدى مراده وإقداره أصلاً فهو المكلم في الحقيقة وقد بان أنها ثلاثة أقسام‏:‏ أولها فيه قسمان، خص الأول بقسميه بالتصريح باسم الوحي لأنه كما مر أخفاها وهو أيضاً يقع دفعة، والوحي يدور معناه على الخفاء والسرعة‏.‏

ولما كانت الأقسام دالة على العظمة الباهرة، وكانت للروح البدني لأن روح الوحي يكسب الروح البدني حياة العلم كما أفاد الروح البدن حياة الحركة بالإرادة والحس، كانت النتيجة مؤكدة لتضمن طعنهم في الرسول والقرآن والتوحيد طعنهم في مضمون الجملة‏:‏ ‏{‏إنه‏}‏ أي الذي له هذا التصرف العظيم في هذا الوحي الكريم ‏{‏عليّ‏}‏ أي بالغ العلو حداً مما لا يليق به من الأوصاف وبما يكون للخلق عن جنابه من السفول بما عليهم من الحجب فلا يلبس شيء مما يعبر به تقريباً للعقول فيحمل على ما يوهم نقصاً، فإن المجازات في لسان العرب شهيرة ‏{‏حكيم *‏}‏ يتقن ما يفعله إتقاناً لا تحيط العقول بإدراكه فيسكن روح العلم الذي هو من ألطف أسراره في روح البدن المدبر له فيكون سراً في سر كما كان براً بعد بر، ويجعل ذلك تارة بواسطة وتارة بغير واسطة على حسب ما يقتضيه الحال، ويعبر عن كل معنى بما يقتضيه حاله في ذلك السياق، ومهما أوهم شيء من ذلك نقصاً فرد المستبصر إلى المحكم بضرب من التأويل على ما يقتضيه الشائع من استعمالات رجع رجوعاً بيناً متقناً بحيث يصير في غاية الجلاء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏52- 53‏]‏

‏{‏وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏52‏)‏ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ ‏(‏53‏)‏‏}‏

ولما كان الوحي روحاً مدبراً للروح كما أن الروح مدبر للبدن، صرح به فقال‏:‏ ‏{‏وكذلك‏}‏ أي ومثل ما أخبرناك بالكيفيات التي نوحيها إلى عبادنا ‏{‏أوحينا إليك‏}‏ صارفاً القول إلى مظهر العظمة تعظيماً لما أوحى إليه وأفاض من نعمه عليه على جميع تلك الأقسام، فالتفت في الروع مذكوراً غير منكور، والسماع من دون الحجاب أصلاً منقول في الإخبار عن ليلة المعراج ومعقول في السماع من وراء الحجاب أيضاً ذكر فيها في قوله‏:‏ «أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي» والوحي بواسطة الملك كثيراً جداً، وأعظم الوحي وشرفه بقوله منكراً له تعظيماً لما عنده من الروح الأمري بإفادة أن هذا الكتاب الذي أبكم الفصحاء وأعجز البلغاء وحير الألباب من الحكماء شعبة منه وذرة بارزة عنه، ويمكن أن يكون تنكير تعظيم وإجلال وتكريم ‏{‏روحاً‏}‏ أي من خالطه صار قلبه حياً ومن عري عنه كان قلبه ميتاً‏.‏ وزاد عظمه بقوله‏:‏ ‏{‏من أمرنا‏}‏ أي بجعله من قسم الأمر وإظهاره في مظهر العظمة فيا له من علو يتضاءل دونه كل شامخ ويتحاقر إكباراً له كل مادح، والمراد بهذا رد ما تقدم من نسبتهم له صلى الله عليه وسلم إلى الإفتراء لأنه تعالى لم يختم على قلبه بل فتحه بيد القدرة وأحياه بروح الوحي فأنطقه بالحكم التي خضعت لها الحكماء، وأقرت بالعجز عن إدانتها ألباب العلماء، ودل على ذلك بقوله، نافياً مبيناً حاله صلى الله عليه وسلم قبل هذا الوحي‏:‏ ‏{‏ما كنت‏}‏ أي فيما قبل الأربعين التي مضت لك وأنت بين ظهراني قومك مساوياً لهم في كونك لا تعلم شيئاً ولا تتفوه بشيء من ذلك وهو معنى ‏{‏تدري‏}‏ وعبر بأداة الاستفهام إشارة إلى أن ما بعدها مما يجب الاهتمام به والسؤال عنه، وعلق بجملة الاستفهام الدراية عن العمل وسدت مسد مفعولي الدراية ‏{‏ما الكتاب‏}‏ أي ما كان في جبلتك أن تعلم ذلك بأدنى أنواع العلم بمجادلة ولا غيرها ‏{‏ولا الإيمان‏}‏ أي بتفصيل الشرائع على ما حددناه لك بما أوحيناه إليك، وهو صلى الله عليه وسلم وإن كان قبل النبوة مقراً بوحدانية الله تعالى وعظمته لكنه لم يكن يعلم الرسل على ما هم عليه، ولا شك أن الشهادة له نفسه صلى الله عليه وسلم بالرسالة ركن الإيمان ولم يكن له علم بذلك، وكذا الملائكة واليوم الآخر فيصح نفي المنفي لفواته بفوات جزئه‏.‏

ولما كان المعنى‏:‏ ولكن نحن أدريناك بذلك كله، عبر عنه إعلاماً بأن الخلق كانوا في ظلام لكونهم كانوا يفعلون بوضع الأشياء في غير مواضعها فعل من يمشي في الظلام بقوله‏:‏ ‏{‏ولكن جعلناه‏}‏ أي الروح الذي هو الكتاب المنزل منا إليك المعلم بالإيمان وكل عرفان بما لنا من العظمة ‏{‏نوراً نهدي‏}‏ على عظمتنا ‏{‏به من نشاء‏}‏ خاصة لا يقدر أحد على هدايته بغير مشيئتنا ‏{‏من عبادنا‏}‏ بخلق الهداية في قلبه، قال ابن برجان‏:‏ فمن رزقه الفرقان الذي يفرق بين المتشابهات والنور الذي يمشي به في الظلمات، فذلك الذي أبصر شعاع النور وشاهد الضياء المبثوث في العالم المفطور، وعلى قدر إقباله عليه والتفرغ عن كل شاغل عنه يكون قبوله له وهدايته به، وقال الأصبهاني في سورة النور‏:‏ هو الكيفية الفائضة من الشمس والقمر والنار مثلاً على الأرض والجدار وغيرهما، يقال‏:‏ استنارت الأرض، وقال حجة الإسلام الغزالي رضي الله عنه‏:‏ ومن المعلوم أن هذه الكيفية إنما اختصت بالفضيلة والشرف لأن المرئيات تصير بسببها ظاهرة ثم من المعلوم أنه كما يتوقف إدراك هذه المرئيات على كونها مستنيرة فكذلك يتوقف على وجود اليعن الباصرة وهي المدركة وبها الإدراك، فكان وصف الإظهار بالنور الباصر أحق بالنور المبصر فلا جرم أطلقوا اسم النور على نور العين المبصرة فقالوا في الخفاش‏:‏ إن نور عينيه ضعيف، وفي الأعمى أنه فقد نور البصر، إذا ثبت هذا فنقول‏:‏ للإنسان بصر وبصيرة، فالبصر هو العين الظاهرة المدركة للأضواء والألوان والبصيرة هي القوة العاقلة وكل واحد من الإدراكين يقتضي نوراً، ونور العقل أقوى وأشد من نور العين، لأن القوة الباصرة لا تدرك نفسها ولا إدراكها ولا آلاتها، والقوة العاقلة تدرك نفسها، وإدراكها وآلتها فنور العقل اكمل من نور البصر، والقوة العاقلة تدرك الكليات والقوة الباصرة لا تدركها، وإدراك الكليات أشرف لانه لا يتغير بخلاف الجزئيات، وإدراك العقل منتج وإدراك الجزئي غير منتج، والقوة الباصرة لا تدرك إلا السطح الظاهر من الجسم واللون القائم بذلك السطح بشرط الضوء فإذا أدركت الإنسان لم تدرك منه إلا السطح الظاهر من جسمه واللون القائم به والقوة العاقلة تدرك ظاهر الأشياء وباطنها فان الباطن والظاهر بالنسبة إليها على السواء فكانت القوة العاقلة نوراً بالنسبة إلى الظاهر والباطن، والقوة الباصرة ظلمة بالنسبة إلى الباطن، ومدرك القوة العاقلة هو الله وصفاته وأفعاله، ومدرك القوة هو الألوان والأشكال فيكون نسبة شرف القوة العاقلة إلى شرف القوة الباصرة كنسبة شرف ذات الله إلى شرف الألوان والأشكال، والقوة الباصرة كالخادم والقوة العاقلة كالأمير، والأمير أشرف من الخادم، والقوة الباصرة قد تغلط والقوة العاقلة لا تغلط، فثبت أن الإدراك العقلي أكمل وأقوى وأشرف من الإدراك البصري، وكل واحد من الإدراكين يقتضي الظهور الذي هو أشرف خواص النور، فكان الإدراك العقلي أولى بكونه نوراً، والإدراك العقلي قسمان‏:‏ أحدهما واجب الحصول عند سلامة القوى والآلات وهي التعقلات الفطرية، والثاني ما يكون مكتسباً، وهي التعقلات النظرية، ولا يكون من لوازم جوهر الإنسان لأنه حال الطفولية لم يكن عالماً البتة، فهذه الأنوار إنما حصلت بعد أن لم تكن فلا بد لها من سبب، والفطرة الإنسانية قد يعتريها الزيغ فلا بد من هاد ومرشد، ولا مرشد فوق كلام الله وأنبيائه، فتكون منزلة آيات القرآن عند عين العقل منزلة نور الشمس كما يسمى نور الشمس نوراً فنور القرآن يشبه نور الشمس ونور العقل يشبه نور العين، وبهذا يظهر معنى قوله تعالى‏:‏

‏{‏فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا‏}‏ ‏[‏التغابن‏:‏ 8‏]‏ ‏{‏قد جاءكم برهان من ربكم‏}‏ ‏{‏وأنزلنا إليكم نوراً مبيناً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 74‏]‏ وإذا ثبت أن بيان الرسول صلى الله عليه وسلم أقوى من نور الشمس وجب أن تكون نفسه القدسية أعظم في النورانية من الشمس كما أن الشمس في عالم الأجسام تفيد النور لغيرها ولا تستفيد من غيرها فكذا نفس النبي صلى الله عليه وسلم تفيد الأنوار العقلية لسائر النفوس البشرية ولا تستفيد النور العقلي من شيء من النفوس البشرية، فلذلك وصف الله الشمس بأنها سراج، ووصف محمداً صلى الله عليه وسلم بأنه سراج، ثم قال‏:‏ ولمراتب الأنوار في عالم الأرواح مثال، وهو أن ضوء الشمس إذا وصل إلى القمر ثم دخل في كوة بيت ووقع على مرآة منصوبة على حائط ثم انعكس منه إلى طشت مملوء ماء موضوع على الأرض ثم انعكس منه إلى سقف البيت فالنور الأعظم في الشمس التي هي المعدن، وثانيها في القمر، وثالثها في المرآة، ورابعها في الماء، وخامسها في السقف، وكل ما كان أقرب إلى المعدن كان أقوى فكذا الأنوار السماوية لما كانت مترتبة لا جرم كان النور المفيد أشد إشراقاً، ثم تلك الأنوار لا تزال مترتبة حتى تنتهي إلى النور الأعظم والروح الذي هو أعظم الأرواح منزلة عند الله الذي هو المراد بقوله ‏{‏يوم يقوم الروح والملائكة صفاً‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 38‏]‏ ثم نقول‏:‏ إن هذه الأنوار الحسية سفلية كانت كأنوار النيران أو علوية كأنوار فإنها ممكنة لذواتها والممكن لذاته لا يستحق الوجود لذاته بل وجوده من غيره، والعدم هو الظلمة والوجود هو النور، فكل ما سوى الله مظلم لذاته مستنير بإنارة الله تعالى، وكذا جميع معارفها وجودها حاصل من وجود الله تعالى فإن الحق سبحانه هو الذي أظهرها بالوجود بعد أن كانت في ظلمات العدم، وأفاض عليها أنوار المعارف بعد أن كانت في ظلمات الجهالة، فلا ظهور لشيء من الأشياء إلا بإظهاره، وخاصة النور إعطاء الإظهار والتجلي والانكشاف، وعند هذا يظهر أن النور المطلق هو الله سبحانه وإن إطلاق النور على غيره مجاز، وكل ما سوى الله من حيث هو هو ظلمة محضة لأنه من حيث أنه ممكن عدم محض بل الأنوار إذا نظر إليها من حيث هي هي فهي ظلمات لأنها من حيث هي هي ممكنات، والممكن من حيث هو هو معدوم، والمعدوم مظلم، فالنور إذا نظر من حيث هو ممكن مظلم، فأما إذا التفت إليها من حيث أن الحق سبحانه أفاض عليها نور الوجود بهذا الاعتبار صارت أنواراً فثبت أنه سبحانه هو النور وأن كل ما سواه ليس بنور، وأضاف النور إلى الخافقين في قوله ‏{‏نور السماوات والأرض‏}‏ لأنهما مشحونتان بالأنوار العقلية والأنوار الحسية، أما الحسية فما نشاهده في السماوات من الكواكب وغيرها، وفي الأرض من الأشعة المنبسطة على سطوح الأجسام حتى ظهرت بها الألوان المختلفة، ولولاها لما كان للألوان ظهور بل وجود، وأما الأنوار العقلية فالعالم الأعلى مشحون بها وهي جواهر الملائكة، والعالم الأدنى مشحون بها وهي القوى النباتية والحيوانية والإنسانية، وبالنور الإنساني السفلي ظهر نظام العالم الأسفل كما أنه بالنور الملكي ظهر نظام العالم العلوي وإذا عرفت هذا عرفت أن العالم بأسره مشحون بالأنوار البصرية الظاهرة والعقلية الباطنة، ثم عرفت أن السفلية فائضة بعضها من بعض فيضان النور من السراج والسراج هو الروح النبوي ثم إن الأنوار القدسية مقتبسة من الأنوار العلوية اقتباس السراج من النور وإن العلويات مقتبسة بعضها من بعض وإن بينها ترتيباً في الغايات، ثم ترتقي جملتها إلى نور الأنوار ومعدنها ومنبعها الأول، وذلك هو الله وحده لا شريك له، فإذا الكل نوره، ثم قال‏:‏ قال الإمام الغزالي‏:‏ قد تبين أن القوى المدركة أنوار‏.‏

ومراتب القوة المدركة الإنسانية خمسة، أحدهما القوة الحساسة وهي التي تتلقى ما تورده الحواس الخمس، وكأنها أصل الروح الحيواني إذ بها يصير الحيوان حيواناً، وهي موجودة للصبي والرضيع وثانيها القوة الخيالية وهي التي تسبب ما أوردته الحواس وتحفظه مخزوناً عندها لتعرضه عن القوة العقلية عند الحاجة إليه، وثالثها القوة العقلية المدركة للحقائق الكلية، ورابعها القوة الفكرية وهي التي تأخذ المعارف العقلية فتؤلفها تأليفاً تستنتج منه علماً بالمجهول، وخامسها القوة القدسية التي يختص بها الأنبياء وبعض الأولياء، وتنجلي فيها لوائح الغيب وأسرار الملكوت، وإليه إشار قوله ‏{‏وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا‏}‏ الآية، وإذا عرفت هذه القوى فهي بجملتها أنوار إذ بها تظهر أصناف الموجودات، وهذه المراتب الخمس يمكن تشبيهها بالأمور الخمسة التي ذكرها الله في المشكاة والزجاجة والمصباح والشجرة والزيت، أما الروح الحساس فإذا نظرت إلى خاصته وجدت أنواره خارجة من ثقب كالعينين والأذنين والمنخرين، فأرفق مثال له من عالم الأجسام المشكاة، وأما الثاني وهو الروح الخيالي فله خواص ثلاثة‏:‏ الأول أنه من طينة العالم السفلي الكثيف لأن الشيء المتخيل ذو شكل وحيز، ومن شأن العلائق الجسمانية أن تحجب عن الأنوار العقلية المحضة، والثاني أن هذا الخيال الكثيف إذا صفا ورق صار موازناً للمعارف العقلية ومؤدياً لأنوارها، ولذلك يستدل المعبر بالصور الخيالية على المعاني العقلية كما يستدل بالشمس على الملك، وبالقمر على الوزير، وبختم فروج الناس وأفواهم على الأذان قبل الصبح، والثالث أن الخيال في البداية محتاج إليه لتضبط به المعارف العقلية ولا تضطرب، وأنت لا تجد شيئاً في الأجسام يشبه الخيال في هذه الصفات إلا الزجاجة فإنها في الأصل من جوهر كثيف ولكن صفا ورق حتى صار لا يحجب نور المصباح بل يؤديه على وجهه ثم يحفظه من الانطفاء بالزجاج، وأما الثالث وهو القوة العقلية القوية على إدراك الماهيات الكلية والمعارف الإلهية فلا يخفى عليك وجه تمثيله بالمصباح، وأما الرابع وهو القوة الفكرية فمن خاصيتها أنها تأخذ ماهية واحدة ثم تقسمها إلى قسمين كقولنا‏:‏ الموجود إما واجب وإما ممكن، ثم تجعل كل قسم قسمين، وهكذا إلى أن تنتهي إلى ما لا يقبل القسمة، ثم تنتهي بالآخرة إلى نتائج هي ثمرتها، فبالحري أن يكون مثاله من هذا العالم الشجرة وإذا كانت ثمارها مادة لتزايد أنوار المعارف وبيانها فبالحري أن لا تمثل بشجرة السفرجل والتفاح بل بشجرة الزيتون خاصة لأن لب ثمرتها هو الزيت الذي هو مادة المصابيح وله من بين سائر الأدهان خاصة زيادة الإشراق وقلة الدخان، وإذا كانت الماشية التب يكثر درها ونسلها والشجرة التي تكثر ثمرتها تسمى مباركة فالتي لا نهاية لمنفعتها وثمرتها أولى أن تسمى شجرة مباركة، وإذا كانت شعب الأفكار العقلية المحضة مجردة عن لواحق الأجسام، فبالحري أن لا تكون شرقية ولا غربية، وأما الخامس وهو القوة القدسية النبوية فهي في نهاية الشرف والصفاء، فإن القوة الفكرية تنقسم إلى ما تحتاج إلى تعليم وإلى ما لا يحتاج إليه، ولا بد من وجود هذا القسم دفعاً للتسلسل فبالحري أن يعبر عن هذا القسم لكماله وصفاته بأنه يكاد زيته يضيء ولو لم تمسه نار، فهذا المثال موافق لهذه الأقسام، وهذه الأنوار مرتبة بعضها على بعض، فالحس هو الأول وهو كالمقدمة للخيال، والخيال كالمقدمة للعقل- انتهى كلام الغزالي رحمه الله تعالى عن نقل الأصفهاني في تفسيره عنه- والله أعلم‏.‏

ولما كان المعنى بناء على ما تقدم من صفة الروح الإلهي‏:‏ فهديناك به، عطف عليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإنك لتهدي‏}‏ أي تبين وترشد، وأكده لإنكارهم ذلك ‏{‏إلى صراط‏}‏ أي طريق واضح جداً، وإن عانيت في البيان مشقة بنفسك وبالوسائط بما أفادته التعدية ب «إلى» فيفهم من ذلك أنه يهدي للصراط بدون ذلك من العناية لمن يسر الله أمره ويهدي الصراط لمن هو أعظم توفيقاً من ذلك ‏{‏مستقيم‏}‏ أي شديد التقوم لأنه كأنه يريد أن يقوم نفسه فهو بعد وجود تقومه حافظ لها من أدنى خلل، وهو كل ما دعا إليه من خصال هذا الدين الحنيف الذي هو ملة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ثم أبدل منه تعظيماً لشأنه قوله بدل كل من كل معرفة من نكرة لافتاً القول من مظهر العظمة إلى أعظم منه إشارة إلى جلالة هذا الصراط بما فيه من مجامع الرحمة والنقمة ترغيباً وترهيباً‏:‏ ‏{‏صراط الله‏}‏ أي الملك الأعظم الجامع لصفات الكمال، ثم وصفه بأنه مالك لما افتتح هذا الكلام بأن له ملكه فقال‏:‏ ‏{‏الذي له‏}‏ ملك ‏{‏ما في السماوات‏}‏ أي هو جميع السماوات التي هي في عرشه والأرض لأنها في السماوات وما في ذلك من المعاني والأعيان ‏{‏وما في الأرض‏}‏‏.‏

ولما أخبر سبحانه أنه المخترع لجميع الأشياء والمالك لعالمي الغيب والشهادة والخلق والأمر وأنه المتفرد بالعظمة كلها، وكان مركوزاً في العقول مغروزاً في الفطر أن من ابتدأ شيئاً وليس له كفوء قادر على إعادته وأن يكون مرجع أمره كله إليه، فلذلك كانت نتيجة جميع ما مضى على سبيل المناداة على المنكرين لذلك وعداً ووعيداً لأهل الطاعة والمعصية بناء على ما تقديره‏:‏ كيف يكون له ما ذكر على سبيل الدوام ونحن نرى لغيره أشياء كثيرة تضاف إليه ويوقف تصريفها والتصرف فيها عليه‏:‏ ‏{‏ألا إلى الله‏}‏ أي المحيط بجميع صفات الكمال الذي تعالى عن مثل أو مدان وهو الكبير المتعالي، لا إلى أحد غيره ‏{‏تصير‏}‏ أي على الدوام وإن كانت في الظاهر في ملك غيره بحيث يظن الجاهل أن ملكها مستقر له، قال أبو حيان‏:‏ أخبر بالمضارع والمراد به الديمومة كقوله‏:‏ زيد يعطي ويمنع أي من شأنه ذلك ولا يراد به حقيقة المستقبل‏:‏ ‏{‏الأمور‏}‏ أي كلها من الخلق والأمر معنىً وحساً خفياً في الدنيا بما نصب من الحكام وجعل بين الناس من الأسباب، وجلياً فيما وراءها حيث قطع ذلك جميعه وحده العزيز الحكيم العلي العظيم، فقد رجع آخر السورة على أولها، وانعطف مفصلها على موصلها، واتصل من حيث كونه في الوحي الهادي في أول الزخرف على أتم عادة لهذا الكتاب المنير من اتصال الخواتم فيه بالبوادي والروائح بالغوادي- والله أعلم بالصواب‏.‏